للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٣٨٤٨١ - قال سفيان الثوري: ظَنَّت الرُّسُلُ أنهم قد كُذِّبوا (١). (ز)

٣٨٤٨٢ - عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -من طريق ابن وهب- في قوله: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} قال: استيأس الرسلُ أن يؤمن قومُهم بهم، وظنَّ قومُهم المشركون أنّ الرسلَ قد كُذِبوا ما وعدَهم اللهُ مِن نصرِه إيّاهم عليهم، وأُخلِفوا. وقرأ: {جاءهم نصرنا} قال: جاء الرسلَ النصرُ حينئذ. قال: وكان أبي يقرؤها: (كَذَبوا) (٢) [٣٤٧٠]. (ز)


[٣٤٧٠] اختُلِف في قراءة قوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا}؛ فقرأ قوم: {كُذِبوا} بالتخفيف ولهم في تفسير الآية وجهان: الأول: أنّ المعنى: استيأس الرسل مِن إيمان قومهم، وظنَّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم. الثاني: أنّ المعنى: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنُّوا أنهم قد كذبوا فيما وُعِدوا من النصر. وقرأ غيرهم بالتشديد ولهم في تفسيرها وجهان: الأول: أنّ الرُّسُلَ ظنَّت بأتباعها المؤمنين أنهم قد كذبوهم، فارتدوا استبطاءً منهم للنصر. الثاني: استيأس الرسل من إيمان قومهم، واستيقنوا من تكذيبهم، ويكون الظن بمعنى: العلم. وقرأ آخرون: (كَذَبُوا) بالفتح، والمعنى: استيأس الرسل من تعذيب قومهم، وظنَّ قومهم أيضًا أنهم قد كذبوا.
ورجَّح ابنُ جرير (١٣/ ٣٩٢) مستندًا إلى السياق والدلالة العقلية قراءةَ التخفيف، والوجهَ الأول في تفسيرها الذي قاله ابن عباس من طريق مسلم، وأبي الضحى، وعمران السلمي، وعلي، والعوفي، وقاله ابن جبير من طريق ربيعة بن كلثوم، وابن مسعود من طريق ابن جبير، ومجاهد من طريق أبي نجيح، وابن زيد، وعبد الله بن الحارث، والضحاك، فقال: «لأنّ ذلك عَقِيب قوله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}، فكان ذلك دليلًا على أنّ إياس الرسل كان مِن إيمان قومهم الذين أُهْلِكوا، وأنّ المضمر في قوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا} إنّما هو مِن ذكر الذين مِن قبلهم مِن الأمم الهالكة، وزاد ذلك وضوحًا أيضًا إتباع اللهِ في سياق الخبر عن الرسل وأممهم قولَه: {فنجي من نشاء} إذ الذين أهلكوا هم الذين ظنُّوا أنّ الرسل قد كذبتهم، فكذَّبوهم ظنًّا منهم أنّهم قد كذبوهم».
وانتقد (١٣/ ٣٩٤) الوجه الثاني الذي قال به ابن عباس من طريق ابن أبي مليكة، وعكرمة، وقاله ابن مسعود من طريق مسروق، وقاله سعيد بن جبير من طريق أبي بشر، وقاله سفيان، مستندًا إلى الدلالة العقلية، فقال: «وهذا تأويلٌ، وقول غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافُه من القول أشبه بصفات الأنبياء والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم، ويشُكُّوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم مِن حُجَجِ الله وأدلته ما لا يعاينه المرسل إليهم، فيعذروا في ذلك أنّ المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر، وذلك قولٌ إن قاله قائل لا يخفى أمره، وقد ذكر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا عن ابن عباس لعائشة، فأنكرته أشد النكرة». وساق الآثار الواردة عنها - رضي الله عنها -، ثم قال (١٣/ ٣٩٦ بتصرف): «فهذا ما روي في ذلك عن عائشة، غير أنها كانت تقرأ: «كُذِّبُوا» بالتشديد وضم الكاف، بمعنى: أنّ الرسل ظنت بأتباعها الذين قد آمنوا بهم أنهم قد كذبوهم، فارتدوا عن دينهم، استبطاء منهم للنصر».
وكذا انتقده ابنُ عطية (٥/ ١٦٥) مستندًا إلى الدلالة العقلية، فساق ردَّ عائشة له، ثم علَّق بقوله: «وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم؟!».
وساق ابنُ تيمية (٤/ ٧٣ - ٧٤) إنكار عائشة، ورجَّح مستندًا إلى السياق، والنظائر الوجهَ الثاني، فقال: «فعائشة جعلت استيئاس الرسل من الكُفّار المكذبين، وظنَّهم التكذيب من المؤمنين بهم، ولكن القراءة الأخرى ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد تأولها ابن عباس، وظاهر الكلام معه، والآية التي تليها -يقصد التي تليها في أثر ابن عباس الوارد من طريق ابن أبي مليكة- إنّما فيها استبطاء النصر، وهو قولهم: {متى نصر الله}، فإن هذه كلمة تبطئ لطلب التعجيل». ثم قال: «وقوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا} قد يكون مثل قوله: {إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان} [الحج: ٥٢]، والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم، ويسمون الاعتقاد المرجوح: وهْمًا. بل قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظنَّ، فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث». وقد قال تعالى: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} [النجم: ٢٨] فالاعتقاد المرجوح هو ظن، وهو وهم. وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفوِّ عنه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله تجاوز لأُمَّتي ما حَدَّثت به أنفسها؛ ما لم تَكَلَّم، أو تعمل». وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح».
وذكر ابنُ عطية (٥/ ١٦٤) أنّ قراءة التشديد تحتمل ما فيها من وجهي التفسير. وبيّن (٥/ ١٦٥) أنّ قراءة الفتح تحتمل أن يكون الضميران للرسل، أي: ظن الرسل أنهم قد كَذَبوا من حيث نقلوا الكذب، وإن كانوا لم يتعمدوه.
وبنحوه قال ابنُ كثير (٨/ ٩٧).
وبين ابنُ عطية أن هذا الاحتمال الثاني مردود، كالوجه الثاني من قراءة التخفيف، وأنّه راجع إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>