من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده، فأتى شعيا النبي إلى ذلك الملك، فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخرَّ ساجدًا، وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبَّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه ممن تشاء، وتُعِزُّ من تشاء، وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي، ورحمت تضرعي. فلمّا رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا أن قل للملك صديقة فيأمر عبدًا من عبيده بالتينة، فيأتيه بماء التين، فيجعله على قرحته، فيشفى، ويصبح وقد بَرِئ، ففعل ذلك، فشفي. وقال الملك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا عِلمًا بما هو صانع بعدونا هذا. قال: فقال الله لشعيا النبي: قل له: إني قد كفيتك عدوك، وأنجيتك منه، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه. فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم، فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إنّ الله قد كفاك عدوك، فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا. فلما خرج الملك التمس سنحاريب، فلم يوجد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كُتّابِه، أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجَوامِع (١)، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلمّا رآهم خرَّ ساجدًا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم، ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدًا، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت عليَّ وعلى من معي. فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء، إنّ ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة بك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شرٌّ لك؛ لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابًا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا، ولتنذر من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم، فلَدمك ودم مَن معك أهون على الله مِن دم قُراد لو قتلته. ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه، فقذف في رقابهم الجَوامِع، وطاف بهم سبعين يومًا حول بيت المقدس إيليا، وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم،
(١) الجوامع: جمع جامعة، وهي الغُلُّ؛ لأنها تجمع اليدين إلى العُنُق. لسان العرب (جمع).