للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تذكر أوطانها الصالحة فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهلكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خَوَلًا ليعبدوهم دوني، وتحكَّموا فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغرُّوهم مني. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، فادّان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني جراءة عليَّ وغرة وفرية عليَّ وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلو مكاني، وعظم شأني، فهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي، وهل ينبغي لي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني؟! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزينون بعمارتها لغيري؛ لطلب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلمون فيها لغير العمل؛ وأما أولاد الأنبياء، فمكثرون مقهورون مغيرون، يخوضون مع الخائضين، ويتمنون عليَّ مثل نصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطْوَلتُ لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت في كل ذلك، أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني، فحتى متى هذا؟! أبِي يَتَمَرَّسون (١)؟! أم إيّاي يُخادعون؟! وإني أحلف بعزتي، لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم، ثم لأسلطن عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا، ألبسه الهيبة، وأنتزع مِن صدره الرأفة والرحمة والبيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وأن حملةَ فُرسانه كريرُ (٢) العِقْبان (٣). ثم أوحى الله إلى إرميا: إني مهلك بني إسرائيل بيافث. ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح. فلما سمع إرميا وحيَ ربه صاح وبكى وشقَّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، وقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم


(١) تَمَرَّس الرجل بدينه: إذا لَعب به وتَعبَّث به. تاج العروس (مرس).
(٢) الكَرِيرُ: صوت مثل صوت المختنق أو المجهود. لسان العرب (كرر).
(٣) العِقْبانُ: جمع عُقاب، وهو الراية والحرب والعَلم الضخم. لسان العرب (غوي)، (عقب).

<<  <  ج: ص:  >  >>