ذلك لدقيانوس الجبار غضب غضبًا شديدًا، ثم أرسل إلى آبائهم، فأتى بهم، فسألهم عنهم، وقال: أخبِروني عن أبنائكم المَرَدة الذين عصوا أمري، وتركوا آلهتي، ائتوني بهم، وأنبئوني بمكانهم. فقال له آباؤهم: أما نحن فلم نعصِ أمرك، ولم نخالفك، قد عبدنا آلهتك، وذبحنا لهم، فلِمَ تقتلنا في قوم مردة قد ذهبوا بأموالنا فبَذَّروها وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا، فارتقوا في جبل يدعى: بنجلوس، وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هربًا منك؟! فلما قالوا ذلك خلّى سبيلهم، وجعل يأتمر ماذا يصنع بالفتية، فألقى الله - عز وجل - في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسَدَّ عليهم كرامة مِن الله، أراد أن يكرمهم، ويكرم أجساد الفتية، فلا يجول ولا يطوف بها شيء، وأراد أن يحييهم ويجعلهم آيةً لأمة تستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. فأمر دقينوس بالكهف أن يُسَدَّ عليهم، وقال: دعوا هؤلاء الفتية المردة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشًا وجوعًا، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرًا لهم [٣٩٦٥]، ففعل بهم ذلك عدوُّ الله، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، قد غشّاه الله ما غشاهم، يُقلَّبون ذات اليمين وذات الشمال. ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما؛ اسم أحدهما: يندروس، واسم الآخر: روناس، فأتمرا أن يكتبا شأن الفتية أصحاب الكهف؛ أنسابهم، وأسماءهم، وأسماء آبائهم، وقصة خبرهم في لوحين من رصاص، ثم يصنعا لهما تابوتا من نحاس، ثم يجعلا اللوحين فيه، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان، ويختما على التابوت بخاتمهما، وقالا: لعل الله أن يُظهر على هؤلاء الفتية قومًا مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلم مَن فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرَهم. ففعلا، ثم بنيا عليه في البنيان، فبقي دقيانوس وقرنُه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا، ثم هلك دقيانوس والقرن الذي كانوا معه وقرون بعده كثيرة، وخلفت الخُلُوف بعد الخُلوف (١). (ز)
[٣٩٦٥] انتقد ابنُ كثير (٩/ ١١٢ - ١١٣) أن يكون الكهف ُردِم على أصحابه مستندًا إلى القرآن، فقال: «وفي هذا نظر، والله أعلم؛ فإنّ الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشية، كما قال تعالى: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه} [الكهف: ١٧]».