للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وعبادةً منهما، فكان أول مَن أنكر حمل مريم صاحبها يوسف، فلمّا رأى الذي بها اسْتَعْظَمَهُ، وعظم عليه، وفظع به، فلم يدرِ على ماذا يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعةً قط، وإذا أراد أن يُبَرِّئها رأى الذي ظَهَر عليها، فلمّا اشْتَدَّ عليه ذلك كَلَّمَها، فكان أول كلامه إيّاها أن قال لها: إنّه قد حَدَث في نفسي مِن أمْرِكِ أمْرٌ قد خشيته، وقد حرصت على أن أُميْتَه وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري. قالت: فقُل قولًا جميلًا. قال: ما كنتُ لِأقول لكِ إلا ذلك، فحدِّثيني، هل ينبت زرعٌ بغير بَذْرٍ؟ قالت: نعم. قال: فهل تنبت شجرةٌ مِن غير غَيْثٍ يُصيبها؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد مِن غير ذَكَر؟ قالت: نعم؛ ألم تعلم أنّ الله -تبارك وتعالى- أنبَتَ الزَّرْعَ يوم خلقه مِن غير بِذْر، والبِذْرُ يومئذٍ إنّما صار مِن الزَّرع الذي أنبته الله مِن غير بذر؟ أوَلَم تعلم أنّ الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنّه جعل بتلك القدرة الغيثَ حياةً للشجر بعد ما خلق كلَّ واحدٍ منهما وحده، أم تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكنِّي أعلم أن الله -تبارك وتعالى- بقدرته على ما يشاء يقول لذلك: كن. فيكون. قالت مريم: أوَلَم تعلم أنّ الله -تبارك وتعالى- خلق آدمَ وامرأتَه من غير أنثى ولا ذَكَر؟ قال: بلى. فلمّا قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الذي بها شيءٌ من الله -تبارك وتعالى-، وأنّه لا يَسَعُهُ أن يسألها عنه، وذلك لِما رأى مِن كتمانها لذلك، ثُمَّ تَوَلّى يوسفُ خِدمة المسجد، وكفاها كلَّ عمل كانت تعمل فيه، وذلك لِما رأى مِن رِقَّة جِسمها، واصفرار لونها، وكَلَفِ وجهِها، ونُتُوِّ بطنِها، وضعف قوتها، ودأبِ نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك، فلمّا دنا نِفاسُها أوحى الله إليها أن اخرجي مِن أرض قومك، فإنّهم إن ظَفِرُوا بك عيَّروك، وقتلوا ولدك، فأفضت ذلك إلى أختها، وأختُها حينئذ حُبْلى، وقد بُشِّرَت بيحيى، فلمّا التقيا وجدت أمُّ يحيى ما في بطنها خرَّ لوجهه ساجدًا مُعْتَرِفًا بعيسى، فاحتملها يوسفُ إلى أرض مصر على حمارٍ له ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الإكافِ (١) شيء، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان مُتاخِمًا لأرض مصر في منقطع بلاد قومها أدرك مريمَ النفاسُ، فألجأها إلى آريِّ حمار -يعني: مِذْودَ الحمار (٢) - وأصل نخلة، وذلك في زمان بردٍ أو حَرٍّ -الشك من أبي


(١) الإكاف للحمار كالسرج للفرس. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص ١٨٣.
(٢) مِذْوَدُ الحمار: مكان علفه. لسان العرب (ذود).

<<  <  ج: ص:  >  >>