للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

استئناسًا بالإنس، فقال: لبيك -مرارًا- إني لأسمع صوتك، وأُحِسُّ حسك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك وخلفك، وأقربُ إليك من نفسك. فلما سمع هذا موسى علِم أنّه لا ينبغي هذا إلا لربه، فأيقن به، فقال: كذلك أنت، يا إلهي، فكلامَك أسمعُ أم رسولَك؟ قال: بل أنا الذي أُكَلِّمك، فادْنُ مِنِّي. فجمع موسى يديه في العصا، ثم تحامل حتى اسْتَقَلَّ قائمًا، فرعدتْ فَرائِصُه حتى اختلفت، واضطربت رجلاه، وانقطع لسانه، وانكسر قلبه، ولم يبق منه عَظْمٌ يحمل آخَرَ، فهو بمنزلة الميِّت، إلا أن روح الحياة تجري فيه، ثم زحف على ذلك وهو مرعوب، حتى وقف قريبًا مِن الشجرة التي نُودِي منها، فقال له الرب -تبارك وتعالى-: ما تلك بيمينك، يا موسى؟ قال: هي عصاي. قال: وما تصنع بها؟ -ولا أحد أعلم منه بذلك- قال موسى: أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى قد علمتَها. وكان لموسى في العصا مآرب، كان لها شعبتان، ومِحْجَنٌ تحت الشعبتين، فإذا طال الغصنُ حَناه بالمحْجَنِ، وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين، وكان يتوكَّأُ عليها، ويَهُشُّ بها، وكان إذا شاء ألقاها على عاتقه، فعلق بها قوسه وكِنانَته ومِرْجامه ومِخْلاتَه وثوبه وزادًا إن كان معه، وكان إذا أرْتع في البَرِّيِّة حيث لا ظل له رَكَزَها، ثم عرض بالوتد بين شعبتيها، وألقى فوقها كساءه، فاستظل بها ما كان مرتعًا، وكان إذا ورد ماءً يقصر عنه رِشاؤُه وصل بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. قال له الرب: ألْقِها، يا موسى. فظنَّ موسى أنه يقول: ارفضها. فألقاها على وجه الرفض، ثم حانت منه نظرة، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يُرى، يلتمس كأنه يبتغي شيئًا يريد أخذه، يمرُّ بالصخرة مثل الخَلِفَةِ من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيَجْتَثُّها، عيناه توقدان نارًا، وقد عاد المحجن عرفًا فيه شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان فهما مثل القَلِيب (١) الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولّى مُدْبِرًا ولم يعقب، فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحيَّة، ثم ذكر ربَّه فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى، إلَيَّ ارجع حيث كنت. فرجع وهو شديد الخوف، فقال: خذها بيمينك، ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى. قال: وكان على موسى حينئذ مِدْرَعَة مِن صوف، قد خلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها أدْنى طرف المِدْرَعة على


(١) القَلِيب: البِئْر التي لم تُطْوَ. النهاية (قلب).

<<  <  ج: ص:  >  >>