يده، فقال له ملَك: أرأيت -يا موسى- لو أذن الله بما تُحاذِر أكانت المدرعة تُغني عنك شيئًا؟ قال: لا، ولكني ضعيف، ومِن ضَعْفٍ خُلِقْتُ. فكشف عن يده، ثم وضعها على فم الحيَّة، حتى سمع حِسَّ الأضراس والأنياب، ثم قبض، فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين. قال له ربه: ادْنُ. فلم يزل يُدْنِيه حتى أسنَدَ ظهرَه بجذع الشجرة، فاسْتَقَرَّ، وذهبت عنه الرّعْدَة، وجمع يديه في العصا، وخضع برأسه وعنقه، ثم قال له: إنِّي قد أقمتُك اليوم في مقام لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك؛ أدنيتك وقرَّبْتُك حتى سمعت كلامي، وكنتَ بأقرب الأمكنة مِنِّي، فانطلق برسالتي، فإنّك بعيني وسمعي، وإن معك يدي وبصري، وإنِّي قد ألْبَسْتُكَ جُبَّة من سلطاني؛ تستكمل بها القُوَّة في أمري، فأنت جندٌ عظيم من جنودي، بعثتك إلى خلق ضعيف مِن خلقي، بَطِرَ نعمتي، وأمِنَ مكْري، وغرَّته الدنيا حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وعَبَدَ مَن دوني، وزعم أنه لا يعرفني، وإنِّي لَأُقْسِم بعِزَّتي: لولا العُذْر والحُجَّة التي وضعتُ بيني وبين خلقي لَبَطَشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حَصَبَته، وإن أمرتُ الأرضَ ابتَلَعَتْه، وإن أمرتُ البحار غَرَّقَتْهُ، وإن أمرت الجبال دمَّرته، ولكنه هان عَلَيَّ، وسقط من عيني، وسِعَهُ حلمي، واستغنيت بما عندي، وحق لي أني أنا الغني لا غَنِيَّ غيري، فبلِّغه رسالتي، وادعُه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي، وذكِّره بأيامي، وحذِّره نقمتي وبأسي، وأخبِره أنّه لا يقوم شيءٌ لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولًا لَيِّنًا، لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أنِّي أنا العَفُوُّ، والمغفرة أسرعُ مِنِّي إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبستُه من لباس الدنيا؛ فإنّ ناصيته بيدي، ليس يَطْرِفُ ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني، وقل له: أجِب ربك؛ فإنّه واسع المغفرة، فإنه قد أمهلك أربعمائة سنة، في كلها أنت مُبارِزُه بالمحاربة، تَتَشَبَّه وتَتَمَثَّل به، وتصدُّ عبادَه عن سبيله، وهو يُمْطِر عليك السماء، ويُنبِت لك الأرض، لم تسقم، ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تُغْلَب، ولو شاء أن يجعل لك ذلك أو يَسْلُبَكَهُ فعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم، وجاهِده بنفسك وأخيك وأنتما محتسبان بجهاده، فإنِّي لو شئت أن آتيه بجنود لا قِبَل له بها فعلتُ، ولكن لِيعلم هذا العبدُ الضعيفُ الذي قد أعْجَبَتْهُ نفسه وجموعُه أنّ الفئة القليلة -ولا قليل مِنِّي- تغلب الفئة الكبيرة بإذني، ولا يُعْجِبَنَّكما زِينته، ولا ما مُتِّع به، ولا تَمُدّا إلى ذلك أعينكما؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينة المترفين، وإنِّي لو شئت أن أزينكما من