للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم وقال: {إنك لغوي مبين} [القصص: ١٨]. فنظر الإسرائيليُّ إلى موسى حين قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، فخاف بعدما قال له: {إنك لغوي مبين}، أن يكون إياه أراد -وإنما أراد الفرعوني-، فقال: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} [القصص: ١٩]. وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إيّاه أراد موسى ليقتله، فتَتاركا، فانطلق الفرعونيُّ إلى قومه، فأخبرهم بما سمع مِن الإسرائيلي حين يقول: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس}. فأرسل فرعونُ الذبّاحين ليقتلوا موسى، فأخذ رُسُلُ فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، وجاء رجل مِن شيعة موسى مِن أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر -وذلك من الفتون، يا ابن جبير-.

فخرج موسى مُتَوَجِّهًا نحو مَدْين، لم يلق بلاءً مثل ذلك، وليس له بالطريق عِلْمٌ إلا حُسْنُ ظنِّه بربه، فإنه قال: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان} [القصص: ٢٢ - ٢٣] يعني: حابِسَتَيْ غنمَهما. {قال: ما خطبكما} مُعْتَزِلَتَيْن لا تسقِيانِ مع الناس؟ قالتا: ليست لنا قُوَّة نُزاحِم القوم، وإنما ننتظر فضول حِياضِهم. فسقى لهما؛ فجعل يغرِف في الدلو ماءً كثيرًا حتى كانتا أول الرعاة فراغًا، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما، وانصرف موسى إلى شجرة فاسْتَظَلَّ بها، وقال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: ٢٤]. فاستنكر أبو الجاريتين سرعة صدورهما بغنمهما حُفَّلًا (١) بِطانًا (٢)، وقال: إن لكما اليوم لَشأنًا. فحدَّثتاهُ بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه له، فأتته فدعته، فلما كلَّمه قال: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} [القصص: ٢٥]، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطانًا، ولسنا في مملكته. قالت ابنتُه: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص: ٢٦]. فحملته الغيرة أن قال: وما يدريك ما قُوَّتُه وما أمانته؟ قالت: أمّا قوته فما رأيتُ منه حين سقى لنا، لم أر رجلًا قطُّ أقوى في ذلك السقي منه حين سقى لنا، وأما أمانته فإنّه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له، فلمّا علم أني امرأة صوَّب رأسه ولم يرفعه، ولم ينظر إلَيَّ حين أقبلت إليه، حتى بلَّغتُه رسالتك، فقال لي: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق.


(١) حُفَّلًا: جمع حافِل، أي: ممتلئة الضروع. النهاية (حفل).
(٢) بَطانًا: ممتلئة البطون. النهاية (بطن).

<<  <  ج: ص:  >  >>