فلم يقل هذا إلا وهو أمين. فسُرِّي عن أبيها، وصدَّقها، وظَنَّ به الذي قالت، فقال: هل لك {أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك}[القصص: ٢٧]. ففعل، فكانت على موسى ثماني حجج واجبة، وكانت سنتان عِدَةً منه، فقضى اللهُ عِدَتَه، فأتمها عشرًا. -قال سعيد: فسألني رجلٌ مِن أهل النصرانية مِن علمائهم: هل تدري أيَّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا. وأنا يومئذ لا أعلم، فلقيت ابنَ عباس، فذكرت له الذي قال النصرانيُّ، فقال: أما كنت تعلم أنّ ثمانيًا واجبة لم يكن موسى لينتقص منها شيئًا، وتعلم أنّ الله تعالى كان قاضيًا عن موسى عِدَته التي وعد؟ فإنّه قضى عشرًا. فأخبرت النصراني، فقال: الذي أخبرك بهذا هو أعلم منك. قلت: أجلْ، وأولى! -.
سار موسى بأهله، ورأى مِن أمر النار ما قصَّ اللهُ عليك في القرآن وأمرِ العصا ويدِه، فشكا إلى ربِّه ما يتخوَّف مِن آل فرعون في القتيل، وعُقدة لسانه؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه مِن كثير من الكلام، فسأل ربَّه أن يعينه بأخيه هارون، ليكون له رِدْءًا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يُفْصِح به، فآتاه الله سُؤْلَه، فحَلَّ عُقْدَةً من لسانه، وأوحى إلى هارون، وأمَرَهُ أن يلقى موسى، فاندفع موسى بالعصا، ولَقِي هارون، فانطلقا جميعًا إلى فرعون، فأقاما ببابه حينًا لا يُؤذَن لهما، ثم أذن لهما بعدَ حِجاب شديد، فقالا:{إنا رسولا ربك}. فقال: ومَن ربكما، يا موسى. فأخبراه بالذي قصَّ الله في القرآن، قال: فما تريدان؟ وذَكَّره بالقتيل، فاعتذر بما قد سمعتَ، قال: أريد أن تؤمن بالله، وترسل معي بني إسرائيل. فأبى عليه ذلك، وقال: ائْتِ بآيةٍ إن كنت مِن الصادقين. فألقى بعصاه، فتحولت حيَّة عظيمة فاغرةً فاها مُسْرِعةً إلى فرعون، فلما رأى فرعونُ أنّها قاصِدةٌ إليه خافها؛ فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يَكُفَّها عنه، ففعل، وأخرج يده مِن جيبه بيضاء من غير سوء، يعني: من غير برص، ثم أعادها إلى كُمِّه، فصارت إلى لونها الأول، فاستشار الملأَ فيما رأى، فقالوا له: هذان ساحران، يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلى. يعنون: مُلْكَهم الذي هم فيه والعيش، فأبَوْا على موسى أن يعطوه شيئًا مما طلب، وقالوا له: اجمع لهم السحرةَ، فإنهم بأرضنا كثير حتى تغلب بسحرِهم سحرَهما. {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين}[الشعراء: ٥٤]، فحُشِر له كل ساحر مُتعالِم، فلما أتَوْا فرعونَ قالوا: بِمَ يعملُ هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات والحبال. قال: فلا، واللهِ، ما في الأرض قومٌ يعملون بالحيّات والحِبال والعُصِيِّ