للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهناك فرق بين أن يكون معتمدًا على المأثور من تفسيرهم، وبين أن يكون صاحب رأي مستقلٍّ يرجِّح ويختار، والترجيح والاختيار رأي.

وسأقف مع أنموذج من هذا النوع، ورد عن عَلَمٍ من أعلام المفسرين المتأخرين: قال الشيخ الطاهر بن عاشور (ت: ١٣٩٣ هـ): "أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدوا ما هو مأثور، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها، ولم يوضحوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر. . . ". ثم قال: "وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، ولكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها، وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزًا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور، وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد، ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، فللَّه درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور، مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم من سلكوا طريقهم، مثل الزمخشري وابن عطية" (١).

وها هنا وقفات ناقدة لهذا الكلام:

الأولى: لم يصرح الطاهر بن عاشور بأولئك الذين "جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدوا ما هو مأثور"، وفي ظني أن هذا لم يُقل به، ولكنه تأولٌ لكلام من يرى وجوب الأخذ بما أثر عن السلف.

الثانية: لم يورد الشيخ لنفسه دليلًا من كلام الطبري يدلّ على التزامه بما روى عن الصحابة والتابعين فقط، ولم يرد عن الطبري أنه يقتصر عليهم، ولا يتعدى ذلك إلى الترجيح، بل قد نصَّ على منهجه في التعامل مع أقوال المفسرين، والتعليل لها والترجيح بينها، قال: ". . . ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منه. ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه" (٢).

فهذا نصُّه رحمه اللَّه واضح في نوعية الرأي الذي سيسلكه، وهو التعليل والترجيح


(١) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ١/ ٣٢، ٣٣.
(٢) تفسير ابن جرير الطبري ١/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>