الجُمُعة نزل ربُّنا على كرسيّه إلى ذلك الوادي، وقد حُفَّ العرش بمنابر من ذهب مُكلَّلة بالجوهر، وقد حُفَّتْ تلك المنابر بكراسي من نور، ثم يُؤْذَن لأهل الغُرفات، فيُقبِلون يَخوضون كَثيب المِسك إلى الرُّكَب، عليهم أسورة الذّهب والفِضّة، وثياب السُّندس والحرير، حتى يَنتهوا إلى ذلك الوادي، فإذا اطمأنوا فيه جُلوسًا بَعث الله - عز وجل - عليهم ريحًا يُقال لها: المُثِيرة. فثارتْ يَنابيع المِسك الأبيض في وجوههم، وثيابهم، وهم يومئذ جُردٌ مُرْدٌ مُكَحَّلون، أبناء ثلاث وثلاثين، يَضرب جِمامُهم (١) إلى سُرَرِهم، على صورة آدم يوم خَلَقه الله - عز وجل -، فيُنادي ربّ العزّة -تبارك وتعالى- رضوان، وهو خازن الجنة، فيقول: يا رضوان، ارفع الحُجُب بيني وبين عبادي وزُوّاري. فإذا رَفع الحُجُب بينه وبينهم فرَأوا بهاءه ونوره هبّوا له سُجودًا، فيُناديهم - عز وجل - بصوته: ارفعوا رؤوسكم، فإنما كانت العبادة في الدنيا، وأنتم اليوم في دار الجزاء، سَلُوني ما شئتم، فأنا ربّكم الذي صدَقتُكم وعدي، وأَتممتُ عليكم نعمتي، فهذا محلّ كرامتي، فسَلُوني ما شئتم. فيقولون: ربّنا، وأيَّ خيرٍ لَمْ تفعله بنا؟! ألستَ الذي أعنتَنا على سكرات الموت، وآنستْ منا الوَحْشة في ظُلمة القبور، وآمَنتَ روْعتنا عند النفخة في الصُّور؟! ألستَ أقلتَنا عَثراتنا، وسَترتْ علينا القبيح من فِعْلنا، وثبَّتَ على جسر جهنم أقدامنا؟! ألستَ الذي أدنيتَنا من جوارك، وأَسْمعتَنا من لَذاذة مَنطقك، وتَجلّيتَ لنا بنورك؟! فأي خيرٍ لمْ تفعله بنا؟! فيعود - عز وجل - فيُناديهم بصوته، فيقول: أنا ربّكم الذي صدَقتُكم وعدي، وأَتممتُ عليكم نعمتي، فسَلُوني. فيقولون: نسألك رِضاك. فيقول: برضاي عنكم أقلتُكم عَثراتكم، وسَترتُ عليكم القبيح من أموركم، وأَدنيتُ مني جواركم، وأَسمعتُكم لذاذة مَنطقي، وتَجلّيتُ لكم بنوري، فهذا محلّ كرامتي، فسَلُوني. فيسألونه حتى تنتهي مسألتهم، ثم يقول - عز وجل -: سَلُوني. فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، ثم يقول - عز وجل -: سَلُوني. فيقولون: رضينا ربّنا وسلّمنا. فيزيدهم من مزيد فضله وكرامته، ويزيد زهرة الجنة ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطر على قلب بشر، ويكون كذلك حتى مقدار متفرقهم من الجُمُعة». قال أنس: فقلتُ: بأبي وأمي يا رسول الله، وما مِقدار تفرُّقهم؟ قال:«كقدْر الجُمُعة إلى الجُمُعة». قال: «ثم يَحمل عرشَ ربّنا العِلِّيون، معهم الملائكة والنّبيّون، ثم يُؤْذَن لأهل الغُرفات فيعودون إلى غُرفهم، وهم غرفتان زُمرُّدتان خَضراوان، وليسوا إلى شيء أشوق منهم إلى يوم الجُمُعة، ليَنظروا
(١) الجُمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين. النهاية (جمم).