للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس؛ ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا تسمع؟ ! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا؛ فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف" (١)، قال القسطلاني: "وقوله: مرّة؛ أي: وقتًا، ويعني به: قبل ظهور الكذب" (٢)، وقد كان ظهور البدع واختلاق الكذب المسوغ لها حدثًا كبيرًا استدعى إيجاد آلية جديدة تدفع شر هذا الخطر الناجم؛ فنشأت العناية بالإسناد واعتماده آلية ملزمة لنقل الأخبار. قال محمد بن سيرين: "كان في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد لكي يأخذوا حديث أهل السُّنَّة ويدعوا حديث أهل البدع" (٣)؛ يصوّر محمد بن سيرين بعبارته هذه أثر الأحداث والمستجدات في استحداث آليات جديدة لصيانة السُّنَّة وحفظها من عبث العابثين، وذلك أن الزمن الأول كان زمن إيمان واجتماع فكان الكذب منتف عن جملة أهله، وكانت الروايات في مأمن؛ فلما تبدل الحال استدعى ذلك مزيدًا من الدقة والتحري لدفع شرر الكذب والاختلاق الناشئ، فسأل نقلة العلم وحملته عما لم يكونوا يسألون، ودققوا فيما لم يكونوا يدققون، ووجدوا في الإسناد بغيتهم، فاعتمدوه آلية في نقل الأخبار.

ومما يبيِّن جدة استعمال آلية الإسناد في زمانهم تلك الرواية التي ساقها الرامهرمزي بسنده عن الشعبي، عن الربيع بن خثيم قال: "من قال لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فله كذا وكذا، وسمّى من الخير"، قال الشعبي: فقلت: مَنْ حدّثك؟ قال: عمرو بن ميمون، وقلت: من حدثك؟ فقال: أبو أيوب صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال يحيى بن سعيد: وهذا أول ما فتش عن الإسناد (٤).

وبدأت آلية الإسناد في الدخول إلى ساحة المرويات؛ لتؤدي مهمتها في حفظ السُّنَّة وصيانتها من عبث العابثين واختلاق المختلقين وانتحال المبطلين، ثم صارت آلية الإسناد أصلًا معتمدًا في نقل كثير من مرويات الشريعة مما هو من أقوال الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم.


(١) مقدمة صحيح مسلم ١/ ١٣.
(٢) إرشاد الساري ٩/ ٧٣.
(٣) كتاب العلل الصغير للترمذي المطبوع بآخر جامعه ٦/ ٢٣٤.
(٤) المحدث الفاصل ١/ ٢٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>