للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مضيق لا يسع إلا مجلسك، يا ابن عمران، ثم انظر فإنِّي أهْبِط إليك وجنودي من قليل وكثير. ففعل موسى كما أمره ربُّه، نَحَتَ لوحين، ثم صعد بهما إلى الجبل، فجلس على الحجر، فلمّا استوى عليه أمر الله جنودَه الذين في السماء الدنيا، فقال: ضعِي أكْنافَك حول الجبل. فسَمِعَت السماء ما قال الربُّ، ففعلت أمره، ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي عليه موسى؛ أربعة فراسخ من كل ناحية، ثم أمر اللهُ ملائكةَ السماء الدنيا أن يمُرُّوا بموسى، فاعترضوا عليه، فمَرُّوا به كثيران البقر، تنبُع أفواههم بالتَّقْدِيس والتَّسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرَّعد الشديد، فقال موسى بن عمران - عليه السلام -: ربِّ، إنِّي كنتُ عن هذا غَنِيًّا، ما ترى عيناي شيئًا، قد ذهب بصرُهما من شعاع النور المُتَضَعِّفِ على ملائكة ربي. ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه. فهبطوا أمثال الأُسْدِ، لهم لَجَبٌ (١) بالتسبيح والتقديس، ففزع العبدُ الضعيفُ ابنُ عمران مِمّا رأى ومِمّا سَمِع، فاقْشَعَرَّت كلُّ شعرة في رأسه وفي جلده، ثم قال: ندِمْتُ على مسألتي إيّاك، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له حبر الملائكة ورأسُهم: يا موسى، اصْبِر لِما سألتَ، فقليلٌ من كثير ما رأيتَ. ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة: أن اهبطوا على موسى، فاعْتَرِضُوا عليه. فأقبلوا أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم، أو كلهب النار، ففزِع موسى، وأَسِيَتْ (٢) نفسُه، وأساء ظنَّه، وأَيِس من الحياة، فقال له حبر الملائكة ورأسُهم: مكانَك، يا ابن عمران، حتى ترى ما لا تصبر عليه. ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة: أن اهبطوا، فاعْتَرِضُوا على موسى بن عمران. فأقبلوا، فهبطوا عليه، لا يشبههم شيء من الذين مرُّوا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مرُّوا به قبلهم، فاصْطَكَّت ركبتاه، وأَرْعَدَ قلبُه، واشتدَّ بكاؤه، فقال له حبر الملائكة ورأسُهم: يا ابن عمران، اصْبِر لِما سألتَ، فقليل من كثير ما رأيتَ. ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة: أنِ اهبطوا، فاعترِضوا على موسى، فهبطوا عليه سبعة ألوان، فلم يستطع موسى أن يُتْبِعَهم طَرْفَه، لم يرَ مثلهم، ولم يسمع مثل أصواتهم، وامتلأ جوفُه خوفًا، واشْتَدَّ


(١) اللَّجَبُ: الصوت والغَلَبة مع اختلاط، وكأنه مقلوب الجَلَبة. النهاية (لجب).
(٢) حزنت. لسان العرب (أسي).

<<  <  ج: ص:  >  >>