دعاهم إليه، وكانوا يسمعون له حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكر ذلك عليه ناس، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال، وأَغْرَوْا به من أطاعهم، فانعطف عنه عامة الناس، فتركوه، إلا من حفظه الله منهم وهم قليل. فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائْتَمَرت رءوسهم بأن يفتنوا مَنِ اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم. فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النَّجاشِيُّ لا يظلم أحد بأرضه، وكان يُثْنى عليه مع ذلك، وكانت أرض الحبشة مَتْجَرًا لقريش يَتَّجِرُون فيها، ومساكن لتجارتهم يجدون فيها رَفاغًا (١) من الرزق وأمنًا ومتجرًا حسنًا. فأمرهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهب إليها عامتهم لَمّا قُهِرُوا بمكة، وخافوا عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث ذلك سنوات يَشْتَدُّون على من أسلم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومَنَعَتهم، فلما رَأَوْا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل أرض الحبشة مخافةً وفرارًا مِمّا كانوا فيه من الفِتَن والزلزال. فلما اسْتُرْخِي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم، تَحَدَّث بهذا الاسترخاء عنهم، فبلغ ذلك مَن كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد اسْتُرْخِي عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يُفْتَنون، فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها، وجعلوا يزدادون ويكثرون. وإنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة الإسلام، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فلما رأت قريش ذلك، تَوامَرَتْ على أن يفتنوهم، ويَشُدُّوا عليهم، فأخذوهم، وحَرَصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جَهْد شديد، وكانت الفتنة الآخرة، فكانت ثنتين: فتنة أخْرَجَت مَن خرج منهم إلى أرض الحبشة حين أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها وأذن لهم في الخروج إليها، وفتنة لَمّا رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة سبعون نفسًا؛ رءوس الذين أسلموا، فوافَوْه بالحج، فبايعوه بالعَقَبَة، وأعَطْوَه على: أنّا منك وأنت منا، وعلى: أنّ من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنّا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشْتَدَّت عليهم قريش عند ذلك، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخْرَج فيها