للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[سيد قطب ... كلمة إنصاف]

[السُّؤَالُ]

ـ[ما هو رأيكم في السيد قطب وكتابه في ظلال القرآن ومعالم في الطريق؟!]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فإن الأستاذ (سيد قطب) رحمه الله كاتب إسلامي وداعية معروف، ولد بمصر ١٩٠٦ من الميلاد، وأعدم ١٩٦٦ من الميلاد، عاش حياة حافلة مليئة بالأحداث والمتغيرات، وأخرج للمكتبة الإسلامية نماذج فريدة من الكتب الإسلامية بداية بكتابه: (التصوير الفني في القرآن، والعدالة الاجتماعية في الإسلام...ونهاية بـ في ظلال القرآن الذي لم يؤلف مثله في بابه، وكذا معالم في الطريق، ومقومات التصور الإسلامي) كما عانى (سيد قطب) من السجن فترة طويلة من الزمن بسبب صدعه بالحق،

ومحاولته الإصلاح، كما عني بالأدب والكتابات الأدبية في بداياته، كما تخرج من كلية دار العلوم سنة ١٩٣٣م ليسانس اللغة العربية وآدابها، وكتب في الصحف منذ صباه، وتميزت كتاباته بالجرأة والنقد، كما تعرف على أدباء كثيرين واتصل بهم، ومن الذين توثقت صلة بهم عباس العقاد، كما كانت له علاقة وصلة بـ طه حسين، وأحمد حسن الزيات، وإبراهيم المازني...إلخ. ويحسن هنا أن نذكر كلاماً لبعض الباحثين حول موقف (سيد قطب) من العقاد بعد توجهه إلى الكتابات الإسلامية حيث يقول: (وكان في تفسيره (الظلال) يصوب أفكاراً خاطئة وقع بها كاتبون مسلمون معاصرون، حول الإسلام والإيمان والقرآن، ومنهم أستاذه العقاد! لقد وقف "سيد" مع العقاد وقفة مطولة في الظلال، ناقشه في أفكاره الخاطئة، ونقضها وأبطلها وردها، وبين سبب خطأ العقاد فيها، كان ذلك في تعقيبه على قصة نوح في سورة هود...إلخ) انظر كتاب (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) لصلاح عبد الفتاح الخالدي صـ١٦٢.

وعلى أية حال فقد نال (سيد قطب) شهرة واسعة، ولقيت كتبه صدى واسعاً، وتتلمذ عليها الكثيرون وتأثروا بها تأثراً بالغاً، مما جعل بعض الناس يغالي في مدحه ويقدس أقواله ويجعلها بمثابة النصوص الشرعية، بينما رد البعض جميع كتاباته واتهمه بأشنع التهم، والحق واسطة بين الإفراط والتفريط، فيقبل من كلامه ما وافق الدليل ويرد ما عداه، وهذا هو الإنصاف الذي ينبغي أن يتبع معه ومع غيره، ولعل من المفيد أن نذكر بعض أقوال الفضلاء فيه، حيث يقول الشيخ سلمان العودة: (والذي أدين الله به أن الأستاذ (سيد قطب) من أئمة الهدى والدين، ومن دعاة الإصلاح ومن رواد الفكر الإسلامي...سخَّر فكره وقلمه في الدفاع عن الإسلام، وشرح معانيه، ورد شبهات أعدائه، وتقرير عقائده وأحكامه، على وجه قلّ من يباريه أو يجاريه في هذا الزمان، وكان حديث المعايش الذي لا بس همُّ الإسلام قلبه، وملك عليه نفسه، قد شغله الحزن على الإسلام والغضب له، حتى عن ذاته وهمومه الخاصة، وكتابه " الظلال" يعتبر إضافة كبيرة لدارسة التفسير، استطاع فيه أن يستوعب كثيراً مما كتبه المتقدمون، وأن يبني عليه رؤيته الخاصة المتميزة، وفهمه الثاقب، ودرسه الغزير، وأن يقرن آي الكتاب بحياة الناس المعاصرة، حتى يشعر قارئه أن القرآن ليس كتاباً نزل لبيئة خاصة في المكان والزمان، ولكنه هداية للناس أجمعين أياً كان زمانهم أو مكانهم. ولقد استفاد الأستاذ سيد من تفسير ابن كثير فائدة غنية، ونقل عنه، وربما اعتمد عليه خصوصاً في باب المرويات والأقاويل، بل وفي أوجه الاختيار والترجيح، كما انتفع بما كتبه الشيخ محمد رشيد رضا في " المنار" فيما يتعلق بربط هداية القرآن بنتائج العلم والبحث الإنساني، والاجتماعي، والعمراني، وفيما يتعلق بالتجرد عن التعصب والتقليد. ولكن يبقى " الظلال" شيئاً آخر، غير هذا وذلك. نعم. ليس الكتاب تفسيراً لآيات الأحكام، ولهذا فهو لا يغني عن مثل كتاب القرطبي، أو ابن العربي، أو الجصاص...أو غيرهم خصوصاً للمهتمين بمعرفة المذاهب الفقهية، والترجيح بينها. وليس تقريراً مفصلاً، أو تعليمياً، لكليات العقيدة وجزئياتها، فهو لا يغني عن قراءة ما كتبه الإمام الفذ" ابن تيمية" أو تلميذه العلم: (ابن القيم) في تقرير العقيدة والذب عنها، ومناظرة خصومها. بل ووقع في (الظلال) عثرات في هذا الباب وفي غيره، ولكنها يسيرة إلى جنب ما فيه من الخير والعلم والإيمان، ومن ذلك -تمثيلاً- اضطرابه في باب الاستواء، كما يعرفه من راجع تفسير هذه الآية في مواضعها السبعة المعروفة...ومن أفضل ما كتبه سيد قطب كتاب (خصائص التصور الإسلامي) وهو كتاب عظيم القدر في تقرير جملة من أصول الاعتقاد، معتمداً على نصوص الكتاب الكريم بالمقام الأول، مؤيداً لها لحجج العقل الظاهرة، وفيه رد صريح ومباشر على أصحاب مدرسة " وحدة الوجود" و "الحلولية" وأضرابهم، وحديث واضح عن الفروق العظيمة بين الخالق والمخلوق، وبيان أن هذا من أعظم خصائص عقيدة التوحيد، كما بينها الإسلام. فلا مجال مع هذا لأن يحمل أحد الفيض الأدبي الذي سطره سيد في تفسير سورة الإخلاص على تلك المعاني المرذولة، التي كان هو -رحمه الله- من أبلغ من رد عليها وفند شبهاتها...ومن المعلوم المستفيض أن سيداً -رحمه الله- مر في فكره وحياته بمراحل مختلفة...ثم في مرحلة النضج كتب (الخصائص) (والمعالم) (والظلال) (وهذا الدين) و (المستقبل لهذا الدين) ، (والإسلام ومشكلات الحضارة) ...ومع ذلك كان يتعاهد كتبه بالتصحيح والمراجعة والتعديل، كما هو ظاهر في (الظلال) خاصة، إذ كان يعمل فيه قلمه بين طبعة وأخرى، وهذا دأب المخلصين المتجردين) بتصرف يسير من موقع الإسلام اليوم للشيخ سلمان العودة.

وممن نحسب أنه أنصف سيداً العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، حيث رد رداً مطولاً على أحد الذين تهجموا على سيد واتهموه بأشنع التهم، فكان مما قال: (وأعتذر عن تأخر الجواب، لأني من قبل ليس لي عناية بقراءة كتب هذا الرجل، وإن تداولها الناس. لكن هول ما ذكرتم دفعني إلى قراءات متعددة في عامة كتبه، فوجدت في كتبه خيراً كثيراً، وإيماناً مشرقاً، وحقاً أبلج، وتشريحاً فاضحاً لمخططات أعداء الإسلام، على عثرات في سياقاته، واسترسل بعباراته ليته لم يفه بها، وكثير منها ينقضها قوله الحق في مكان آخر، والكمال عزيز! والرجل كان أديباً نقادة، ثم اتجه إلى خدمة الإسلام، من خلال القرآن العظيم، والسنة المشرفة، وسخر قلمه ووقته، ودمه في سبيلها، فشرق بها طغاة عصره! وأصر على موقفه في سبيل الله تعالى، وكشف عن سالفته، وطلب منه أن يسطر بقلمه كلمات اعتذار! وقال كلمته المشهورة: إن أصبعاً أرفعه للشهادة، لن أكتب به كلمة تضارها! أو كلمة نحو ذلك. والواجب على الجميع الدعاء له بالمغفرة، والاستفادة من علمه، وبيان ما تحققنا خطأه فيه. وإن خطأه لا يوجب حرماننا من علمه، ولا هجر كتبه. واعتبر -رعاك الله - حاله بحال أسلاف مضوا، أمثال أبي إسماعيل الهروي، والجيلاني، وكيف دافع عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع ما لديهما من الطوام، لأن الأصل في مسلكهما: نصرة الإسلام والسنة. وانظر (منازل السائرين) للهروي - رحمه الله تعالى- تر عجائب لا يمكن قبولها! ومع ذلك فابن القيم - رحمه الله تعالى- يعتذر عنه أشد الاعتذار، ولا يجرمه فيها، وذلك في شرحه (مدارج السالكين) وقد بسطت في كتاب (تصنيف الناس بين الظن واليقين) ما تيسر لي من قواعد

ضابطة في ذلك. وفي الختام فإني أنصح فضيلة الأخ في الله بالعدول عن طبع هذا الكتاب (أضواء إسلامية) وإنه لا يجوز نشره، ولا طبعه، لما فيه من التحامل الشديد، والتدريب القوي لشباب الأمة على الوقعية في العلماء، وتشذيبهم والحط من أقدارهم، والانصراف عن فضائلهم! أخوكم بكر بن عبد الله أبو زيد ٢٠/١/ ١٤١٤هـ.

والحق أن ما كتبنا عن (سيد قطب) في هذا الجواب كان لمحة خاطفة، ومن أراد الاستزادة فليراجع الكتب المتخصصة في دراسة حياته وكتبه مثل: (ظلال القرآن في الميزان) و (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) وكلاهما لصلاح عبد الفتاح الخالدي. وأما كتاب (معالم في الطريق) فقد قال فيه الخالدي: (هذا هو آخر كتاب صدر في حياة سيد. وقد أصدرته مكتبة (وهبة) عام ١٩٦٤م، وألف سيد كتابه ليكون بياناً لمنهج عمل الحركة الإٍسلامية، وتوضيحاً لمعالم طريقها في الدعوة إلى الله. وأساس الكتاب فصول كتبها سيد من سجنه في "طرة".

والحاصل أن سيد قد وهب نفسه للصدع بالحق في سبيل الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، وقد دفع حياته ثمناً لذلك غير متوان ولا متردد وذلك في وقت عز فيه وجود من يقوم بما قام هو به، بل ظل وجوده عزيزاً إلى الآن، فعلى من وقعوا فيه أن يتأملوا قول القائل:

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم *من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٠٩ رمضان ١٤٢٢

<<  <  ج: ص:  >  >>