للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[موقف الشرع من ترك منزل الأب لكون عقد الإجارة غير محدد]

[السُّؤَالُ]

ـ[عندنا في مصر نظام الإيجار للوحدات السكنية غير شرعي، بمعنى أن العقد عندنا لا يحدد بمدة بل يكون لا نهاية له، وهذا هو المعتاد عندنا والناس لا تعرف غيره وهذا ما يتم الاتفاق عليه بين المالك والمستأجر، ولي صديق قال لوالده حدد العقد بمدة حتى يكون شرعيا، ووالده رجل كبير يستغرب كلامه ولا يقتنع به، فقرر الأخ أن يترك البيت وأباه ولا يجلس معه حيث العقد باطل ولا يجوز الانتفاع بالعقود الباطلة، المشكلة هي أن الوالد يعيش بمفرده الآن في الشقة فهل الشاب مخطئ في تركه والده الكبير أم هو على صواب لأنه يرى حرمة الانتفاع بهذا العقد، وماذا عليه أن يفعل تجاه والده الذي يعيش وحده وهو كبير في السن؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا ريب أن الإجارة على التأبيد دون تحديد مدة لا تصح ولو أجازها القانون، وقد سبق التنبيه على ذلك في عدة فتاوى، انظر منها الفتوى رقم: ٦٨١٩، والفتوى رقم: ١٥٥٢٤.

وبناء على هذا، فما أخبر به صديقك أباه من فساد هذه الإجارة صحيح، وهو مأجور على ذلك -إن شاء الله- لأن ذلك من النصيحة الواجبة، والواجب على أبيه تصحيح هذه الإجارة بتحديد مدة فيها، لكن تركه لمنزل والده وترك والده يعيش بمفرده، وإن كان من باب إنكار المنكر وعدم الانتفاع بالعقود الباطلة، ففيه تفصيل يرجع إلى الموازنة بين المفاسد والمصالح المترتبة على ذلك، وبيان ذلك أن تركه لوالده لا يخرج عن حالين:

الحال الأول: أن يكون في ترك والده يعيش بمفرده تضييع له، لأنه بحاجة إليه ليرعاه، فلا يجوز له ترك والده حينئذ لأن مفسدة تضييع والده وعقوقه أعظم من المصلحة المترتبة على تركه للبيت، وقد قرر أهل العلم أن المفسدة والمصلحة متى كانتا متلازمتين بحيث لا يمكن فعل المصلحة دون الوقوع في المفسدة، ولا يمكن ترك المفسدة إلا بتفويت المصلحة، كان لا بد من الترجيح بينهما، فيفعل ما كانت المصلحة فيه أعظم ويترك ما كانت فيه المفسدة أشد، فإن من قواعد الشريعة: تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

وفي مثل هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها ... فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.

ويقول أيضاً: وهذا باب التعارض باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين.

ويقول أيضاً: من لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.

الحال الثاني: ألا يكون في ترك والده يعيش بمفرده تضييع له، فلا حرج عليه في ترك منزل والده بل هو مأجور على ذلك لأجل إنكاره المنكر، وعليه على كل حال أن يسعى في إقناع والده بفساد هذه الإجارة ووجوب تحديد مدة فيها، ويستعين على ذلك بالله ثم بتوسيط أحد المشايخ الذين يحترمهم والده، وليطلعه على هذه الفتوى، ونسأل الله أن يهدي والده إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٠٥ رمضان ١٤٢٧

<<  <  ج: ص:  >  >>