للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[مذهب السلف في الحد]

[السُّؤَالُ]

ـ[ابن تيمية يقول بأزلية العالم، ما رأيكم؟ وكيف له أن يقول بأن الله محدود، وقد قال علي رضي الله عنه: من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود. وأئمة السلف ينفون الحد، قال الطحاوي: وتعالى عن الحدود والغايات والآلات والأدوات، وهو مذهب كل السلف. ما رأيكم؟]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأما قولك إن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بأزلية العالم فغير صحيح، ولعل الأمر التبس عليك، وإنما وقع الخلاف في المسألة المسماة بحوادث لا أول لها، وهي مسألة من المسائل الدقيقة التي لا ينبغي أن يشتغل بها عوام المسلمين، والتي لا يتسع المقام للبحث فيها، ويمكنك أن تراجع فتوانا رقم: ٦٣١١٧ بخصوص هذه المسألة.

وأما قولك بأن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بأن الله محدود إلى آخر كلامك، فجوابه أن لفظ الحد من الألفاظ المجملة التي لم ترد في الكتاب والسنة، فالصواب فيها عدم إثباتها ولا نفيها بالإجمال، وفي بيان ذلك يقول ابن أبي العز الحنفي في شرحه على العقيدة الطحاوية عند شرحه لكلام الطحاوي الذي ذكرته: الناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين ما أثبت بها فهو ثابت وما نفي بها فهو منفي، لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا، ويذكرون عن مثبتها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلا مخالفا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان، ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها، وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفيا ولا إثباتا وإنما نحن متبعون لا مبتدعون.

فالواجب أن ينظر في هذا الباب أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحا قيل لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك. اهـ.

ثم قال ما خلاصته: فالمعنى الذي أراده الشيخ – يعني الطحاوي - رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقا وباطلا فيحتاج إلى بيان ذلك وهو أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدا وإنهم لا يحدون شيئا من صفاته.. وسيأتي في كلام الشيخ: وقد أعجز خلقه عن الإحاطة به، فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده؛ لأن المعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم، سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا قال: بأنه على العرش بائن من خلقه، قيل: بحد قال: بحد. انتهى.

ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء، ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلا، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته، وأما الحد بمعنى العلم والقول وهو أن يحده العباد فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة. اهـ.

فهذا الكلام النفيس - والذي نقلناه بطوله لنفاسته – يبين لك الصواب في مسألة لفظ الحد وما يشابهه، وهذا المعنى – وهو إطلاق الألفاظ المجملة التي لم ترد في الكتاب والسنة - قد قرره شيخ الإسلام في مواضع من كتبه.

أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه فلا يصح، فقد رواه أبو نعيم في حلية الأولياء من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن النعمان بن سعد قال: كنت بالكوفة في دار الإمارة دار علي بن أبي طالب فذكر قصة فيها الكلام المذكور ضمن كلام طويل، ثم قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث النعمان كذا رواه ابن إسحاق عنه مرسلاً. اهـ.

وهذا إسناد لا يصح لعلتين: الأولى لأن النعمان بن سعد قال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: النعمان بن سعد الأنصاري الكوفي روى عن علي.. روى عنه ابن أخته عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ولم يرو عنه غيره فيما قال أبو حاتم، وذكره بن حبان في الثقات قلت – القائل هو الحافظ ابن حجر: والراوي عنه ضعيف كما تقدم فلا يحتج بخبره. اهـ. وعبد الرحمن بن إسحاق الذي تفرد بالرواية عن خاله النعمان بن سعد متفق على تضعيفه كما في تهذيب الكمال وتقريب التهذيب.

العلة الثانية: أن في السند انقطاعاً بين محمد بن إسحاق والنعمان بن سعد، فإن النعمان بن سعد لم يرو عنه غير عبد الرحمن بن إسحاق فهناك واسطة بين محمد بن إسحاق والنعمان بن سعد، ولهذا قال أبو نعيم: كذا رواه ابن إسحاق عنه مرسلاً.

وننبه هنا إلى أن القول بأن الله في السماء هو الذي دلت عليه نصوص الوحي، وراجع في ذلك فتوانا رقم: ١٠١٦٠٩.

كما ننبه على أن شيخ الإسلام ابن تيمية إمام فذ من أئمة أهل السنة، مشهود له بالعلم والاستقامة وسلامة المعتقد، وقد أفنى حياته العامرة في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ونقد الفرق المنحرفة بأداة قوية وبيان ناصع، وقد أثنى عليه الموافق والمخالف، ويمكنك مراجعة نبذة مختصرة من ترجمته في فتوانا رقم: ٤٥٢٨٢، كما يمكنك مراجعة نبذة من ثناء العلماء عليه في الفتاوى ذوات الأرقام: ٧٠٢٢، ٣٢٠٢٩، ٣٢٤٧٦، ٥٣٩٦١، ٦٠٥٩١.

وينبغي أن يعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع علمه وفضله وجلالته بشر يصيب ويخطئ، وليس معصوماً، فيؤخذ من قوله ويرد كما هو الشأن مع جميع العلماء، والعلماء إن أخطؤوا فخطؤهم مغمور في بحور فضائلهم، ولا يكون ذلك مدعاة لتنقصهم ولا الطعن فيهم لما وجب لهم من الاحترام والأدب والتوقير، وقد قرر هذا المعنى الحافظ الذهبي في عدة مواضع في كتابه سير أعلام النبلاء.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١٩ صفر ١٤٣٠

<<  <  ج: ص:  >  >>