للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[معنى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا]

[السُّؤَالُ]

ـ[يقول تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) فأين نصرة الله جل في علاه لإدريس الذي رفع وعيسى الذي على وشك أن يصلب وأنبياء آخرين بين قتيل ومطرود..??]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فاعلم أن نصر الله رسله حاصل في الجملة، وهذا السؤال الذي طرحته قد طرح من قبل، ورد عليه أهل العلم بما يشفي الغليل، ونورد إليك فيه ما أورده الطبري في تفسيره حيث قال: يقول القائل: وما معنى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه ومثلوا به كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما. ومنهم من هم بقتله قومه فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجياً بنفسه كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقاً لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله والمؤمنين به في الحياة الدنيا، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟ قيل: إن لقوله: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا" وجهين كلاهما صحيح معناه.

أحدهما: أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائنا لهم على من كذبنا وإظفارنا بهم، حتى يقهروهم غلبة ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان، فأعطاهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه. وإما بانتقامنا ممن حادهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذبهم وعاداهم، كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه، من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكهم غرقاً، ونجا موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك. أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتلته من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم، فهذا أحد وجهيه. وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه.

والوجه الآخر: أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين، والمراد واحد، فيكون تأويل الكلام حينئذ إنا لننصر رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما بينا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصاً بعينه.

وبهذا يتبين لك الرد على هذه الشبهة وعلى كل حال، فرسل الله والمؤمنون ينصرون والعاقبة لهم في الدنيا، وأما في الآخرة فالنصر مختص بهم، كما أن الخذلان مختص بأعدائهم، وما يحصل لبعض الأنبياء وأتباعهم في هذه الحياة الدنيا من قتل وتشريد هو من قضاء الله تعالى وقدره، وقد تحققت به حكم كثيرة منها رفع درجاتهم وابتلاء أتباعهم بذلك وتمحيصهم كما قال سبحانه وتعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ {آل عمران:-١٤٠-١٤١} .

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

١٦ شعبان ١٤٢٧

<<  <  ج: ص:  >  >>