للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[الحر تكفيه الإشارة]

[السُّؤَالُ]

ـ[أساتذتنا الكرام..

اطلعت على تفسير كل من الإمام القرطبي وابن كثير للآية رقم ٣٤ -سورة النساء:

(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)

.............................................

ولي أكثر من تساؤل..

حول تفسير ابن كثير فسّر الضرب بأنه ضرب غير مبرح، وفي القرطبي ذكر أنه ضرب للأدب.. وعلى حسب درجة الخطأ فمن (ضرب السواك) و (اللكزة) ونحوه، إلى (الضرب بالسوط) ..وهو ما راعني وهالني وقلب فكري إلى حد كبير..

فلي هنا أكثر من تساؤل، علاقة الزواج سيدي الكريم علاقة حميمة بالأساس مبنية على المشاركة والود والمحبة بين الزوجين، فكيف إذن يفترض أن تتخلل هذه العلاقة الحميمة – بين محب ومحبوبة- شكل آخر للعلاقة هو علاقة الضارب والمضروب، والمؤدِّب والمؤدًّب، ثم تتحول العلاقة بعدها –بمنتهى البساطة- في الفراش من ضارب إلى حبيب ومن مضروب إلى محبوب؟ كيف يمكن أن تستقيم علاقة أصلها الحب والتكافؤ بينما يتخللها الضرب والتأديب ولو لم يكن مبرحاً؟ وهل يمكن أن نتخيله ضربا مبرحاَ من الأساس؟ إذن لصارت بهيمة البعير أكرم من المرأة بكل حال..!! كما أن لي تعليقاَ على فكرة الضرب المبرح أو غير المبرح..

فلو كان المقصود بالضرب هنا ضرب (السواك) و (اللكزة) ونحوها كما ورد في تفسير ابن كثير، فكيف يمكن أن تحل (اللكزة) أو (وخزة السواك) أي مشكلة بين زوجين (نشوز أي عصيان كما ورد بالآية) ؟ وهو العصيان الذي استوجب في الآية نفسها (الموعظة) و (الهجران في المضجع) ..ثم نأتي لنقول بعد ذلك (اضربوهن) أي ضرب كاللكزة وبالسواك ونحو ذلك، هل من المنطقي أن يحل مثل هذا الضرب -غير المنطقي وغير العقلاني أصلا في رأيي- مشكلة بين زوجين من هذا النوع؟ إذن لابد من شرح أكثر منطقية وعقلانية للآية.. فلو قلنا (ضرب السواك) هو غير منطقي ولا يمكن أن يقبله الواقع لحل مشكلة ولا حتى للمساعدة في حلها على الإطلاق..ولو قلنا (ضرب مبرح) –كما ورد في القرطبي أنه يمكن أن يصل في إحدى درجاته إلى الضرب بالسوط- هو أمر غير إنساني بالمرة ولا ملائم لعلاقة كالزواج وقد ذكر القرطبي بالنص:

\\\"....يجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب......ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة، فأدب الرفيعة العذل، وأدب الدنيئة السوط، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله أمرؤاً علّق سوطه وأدّب أهله\\\".

هذه تساؤلات تحيط بتفسير هذه الآية الكريمة ومدلولاتها بعد الاطلاع على كل من تفسيري ابن كثير والقرطبي.. أرجو الإيضاح والتفسير من حضرتكم..

وقد قال تعالى: (واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .

وشكراً..]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن قوله تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ خطاب من الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه وما يفسده، قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {الملك: ١٤} . فالمسلم إن وقف أمام حكم الله ولم يعقل حكمته اتهم نفسه وعقله، ونبذ وراء ظهره عقلانيته ومنطقيته المصادمة لحكم الله تعالى، قال الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا {النساء: ٦٥} .

وقال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ {الأحزاب: ٣٦} . فالمسلم ينقاد لحكم الله تعالى ويستسلم له سامعاً مطيعاً علم الحكمة من ورائه أو غابت عنه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {النور: ٥١} .

واعلم أن من أرشد الرجال إلى ضرب النساء ضرباً غير مبرح هو من بعثه الله رحمة للعالمين بما في ذلك النساء، ففي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكن عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح.

وما من أمر من أوامر الله تعالى إلا وله سبحانه فيه الحكمة البالغة عقل ذلك من عقله وجهله من جهله، ومما فيه الخير قطعاً ما أرشد الله إليه في وسائل علاج المرأة الناشز من الموعظة أولاً والتذكير بالله تعالى وحسن الخلق معها لتبادل الإحسان بالإحسان، فإذا لم يكفها ذلك وتكلفت من الأخلاق شططا ومن الصفات شينا وقبحا، فينتقل الرجل معها إلى الهجر وهو علاج معنوي تعالج به صاحبة المزاج السوي، وترتدع به صاحبة المشاعر الرقيقة، فإن لم يكن ذلك نافعا لغلظة الطبع وجفاء الخلق فينتقل معها إلى العلاج البدني وهو الضرب الذي لا يشين البدن ولا يكسر العظم، لان المقصود به هو التأديب والإيقاظ من السبات والغفلة، ويكفي ذلك ضربة بسواك أو لكزة به، ومن السواك ما لو ضرب به لكسر الرأس، ولذا فتمثيل العلماء بضرب السواك ليس متعارضاً مع تمثيلهم بالسوط، والذي يضبط الأمر هو ما سبق.

وأما قولك بأن المحبة تتنافى مع الضرب فغير صحيح، فالوالد يضرب ولده مع المحبة، بل ما دفعه إلى الضرب إلا المحبة وكما قيل: يقسو ليزدجر.

وقولك: إنه أمر غير إنساني. قول عجيب مردود إذ يعرف العقلاء أن الناس ليسوا سواء فمنهم من تنفعه النظرة ومنهم من لا يرتدع إلا بالزجرة، ومنهم من لا يكف إلا بالكف، وإنكار ذلك إنكار للحقائق وجنوح إلى المثاليات الزائفة، ومع هذا فقد قرر علماء الشريعة أن الأفضل أن يعزف الرجل عن الضرب، ويكتفي بما دونه من العلاج إلا أن يتعين الضرب ويعلم فيه نفعاً فالنفع مطلوب.

قال ابن العربي في أحكام القرآن: قال عطاء لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه، ولكن يغضب عليها.

قال القاضي: هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زمعة إني لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه ولعله أن يضاجعها من يومه.

وروى ابن نافع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استؤذن في ضرب النساء فقال: اضربوا ولن يضرب خياركم، فأباح وندب إلى الترك، وإن في الهجر لغاية الأدب، والذي عندي أن الرجال والنساء لا يستوون في ذلك، فإن العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة ومن النساء بل من الرجال من لا يقيمه إلا الأدب، فإذا علم ذلك الرجل فله أن يؤدب، وإن ترك فهو أفضل.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٠٤ محرم ١٤٢٦

<<  <  ج: ص:  >  >>