للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[الضرورات تبيح المحظورات]

[السُّؤَالُ]

ـ[حججت العام الماضي وكانت والدة زوجي معنا وهي امرأة كبيرة في السن ومريضة بمرض السكر والجلطة بالقلب والضغط وكانت خارجة من العناية وجاءنا مطر غزير في منى وصار الناس في خوف وفزع وخرجنا من الخيام ومشينا ومن خوفي على والدة زوجي وجدت عربة مربوطة في مخيم وأخذتها وركبت العجوز فيها ومشينا حتى وصلت العزيزية؟ ووجدنا سيارة وركبنا فيها وتركت العربة في الشارع وبعد أن وصلنا العجوز إلى المنزل رجعت مكة حتى أستسمح من صاحب العربة فلم أجده فماذ علي؟ أنا لم أذكر في تلك اللحظة إلا أن أنقذ والدة زوجي من ذلك المطر والمشي الكثير وأنها لا تستطيع المشي فأفيدوني.]ـ

[الفَتْوَى]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه كان ينبغي لك أولاً أن تستنجدي برجال الأمن أو الإسعاف إن أمكن ذلك قبل أن تأخذي العربة، وعلى كل حالٍ فإن الذي يظهر أن هذه العربة من الأملاك الخاصة.

وعليه، فإن كانت هذه المرأة يخاف عليها -إذا لم تؤخذ لها العربة- الهلاك أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدته، فيجب أخذها ولو كانت للغير لأجل إنقاذ النفس، لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها وإنقاذ النفس واجب.

قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج من كتب الشافعية وهو يتكلم عن الأحوال التي يلزم فيها أكل المحرم: ومن خاف من عدم الأكل على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب ولم يجد حلالا يأكله ووجد محرماً كميتة ولحم خنزير وطعام الغير لزمه أكله، لأن تاركه ساع في هلاك نفسه. انتهى بتصرف يسير.

لكن يجب رد العربة إلى مكانها ليأخذها مالكها، فإن لم ترد للمكان الذي أخذت منه وتركت حتى ضاعت على مالكها -كما هو الظاهر- فالواجب حينئذ التوبة إلى الله تعالى، وينبغي التصدق بثمنها عن مالكها إذ لا يمكن إلا ذلك بعد ضياعها وتعذر معرفة مالكها.

قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره عند كلامه على تفسير قوله تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ {البقرة: ٢٧٩} . قال علماؤنا: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا أن يردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يدر الحلال من الحرام مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده حتى لا يشك أن ما بقي قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه. انتهى

ومحل الشاهد من كلامه رحمه الله أن من أيس من رد حق للغير أن يتصدق عنه، ونحن لا نقول إن أخذ العربة في حال الضرورة كان ظلماً، ولكنها مضمونة على كل حال، فإن لم تضع بأن احتفظتم بها فكذلك الحكم فإن كان يمكن معرفة مالكها وجب الاحتفاظ بها إن أمكن ذلك حتى ترد إليه، وإن لم يمكن معرفة مالكها تصدق بها عنه، فإن عرف بعد ذلك خير بين أن يقبل التصدق بها عنه أو يعطى له ثمنها، كما سبق توضيحه في الفتوى رقم: ٥٦٧٩٣.

وإن كانت الضرورة غير شديدة بأن لم تكن على الوصف الذي ذكره الشربيني رحمه الله تعالى، فإن أخذ العربة المذكورة من التعدي على أموال الناس، وهذا الذي قلناه كله فيما إن كانت هذه العربة من غير أملاك الدولة المخصصة لمثل هذه الحالات؛ إذ لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه كما في الحديث الصحيح، ولا ضرورة تبيح مثل هذا التصرف، فإن حصل ما حصل وجبت التوبة مع ما قدمنا، وعلى كل حال، فإن أخذها لا يؤثر في الحج ولو كان تعدياً كما سبق بيانه في الفتوى رقم: ٥٧٥١٠.

والله أعلم.

[تَارِيخُ الْفَتْوَى]

٠٤ رجب ١٤٢٦

<<  <  ج: ص:  >  >>