وأما ما لم ينص الشارع فيه على شئ، فيمكن أن يقال أن السمع دل عليه على معنى أنه قال:«ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك فالمكلف مخير فيه» كما رد الآمدى عليهم بقوله: «نحن لا ننكر أن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية، وإنما الإباحة الشرعية خطاب الشارع بالتخيير، وذلك غير ثابت قبل ورود الشرع ولا يخفى الفرق بين القسمين، فإذن ما أثبتناه من الإباحة الشرعية لم يتعرض المعتزلة لنفيه، وما نفى غير ما أثبتناه.
مذهب الكعبى فى الإباحة:
هذا وقد نفى الكعبى من المعتزلة وجود المباح فى الشرع إذ كل فعل موصوف بالإباحة مظهره تخيير المكلف بين الفعل والترك هو فى الواقع واجب مأمور به، لأن الأمور فى الشرع مترددة بين أن يكون فعلها هو المطلوب أو تركها هو المطلوب، تبعا للأكثر نفعا، إذ الشارع إنما يأمر بالذى نفعه أكثر من ضرره، ولا يمكن أن يتساوى الفعل والترك بالنسبة لنفع المكلف وضرره وما دام كذلك فلا يكون هناك تخيير فى الحقيقة، لأن الذى نفعه اكثر مأمور به والذى ضرره أكثر منهى عنه لانتفاء التساوى بين النفع والضرر على هذا الوجه ومادام التساوى منتفيا فالتخيير بين الفعل والترك غير متصور، فينتج أنه لا يمكن أن يكون فى الشرع مباح.
فالأكل والشرب كل منهما مطلوب بالقدر الذى يقيم الأود، واللهو المشروع مطلوب بالقدر الذى ينتفع به الذهن والجسم، والنوم مطلوب بالقدر الذى يسلم به العقل والجسم، والسعى فى طلب الرزق مطلوب بالقدر الذى تبقى به الحياة … وهكذا بالنسبة لكل ما اتصف بأنه مباح.
ونص دليل الكعبى الذى نقله الآمدى هو «ما من فعل يوصف بكونه مباحا إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما، وترك الحرام واجب ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبذا يكون فعل ما ظاهره التخيير واجبا عند الكعبى».
وقد نقل الآمدى (١) ردا على الكعبى بأنه «إن كان ترك الحرام واجبا فالمباح ليس هو نفس ترك الحرام بل شئ يترك به الحرام مع إمكان تحقق ترك الحرام بغيره فلا يلزم أن يكون واجبا».
ثم يقول:«وهذا الموضوع فى غاية الغموض والإشكال».
[هل المباح يدخل تحت التكليف]
ومما يتصل بهذين الموضوعين كون المباح داخلا تحت التكليف أم لا؟
فجمهور العلماء اتفقوا على أنه غير داخل فى التكاليف، إذ التكليف يكون بطلب ما فيه كلفة ومشقة، وهذا غير متصور فى التخيير بين الفعل والترك، غير أن أبا اسحاق الاسفرايينى يرى دخول المباح تحت التكاليف، لأنه يجب اعتقاد إباحته والوجوب من خطاب التكليف.