للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بينة المدعى بعد ذلك كما يترجح جانب صدق المدعى بالبينة حتى لا يعتبر يمين المنكر معها. وهذا القول مهجور غيرُ مأخوذ به، وليس بشئ أصلًا؛ لأن عمر - رضى الله عنه - قَبل البينة من المدعى بعد يمين المنكر، وكان شريح - رحمه الله تعالى - يقول: اليمين الفاجرة أحق أن تُرَدَّ من البينة العادلة.

هل يظهر كَذِبُ المنكر بإقامة البينة؟

الصواب أنه لا يظهر كذبه حتى لا يُعَاقبَ عقوبةَ شاهدِ الزور، ولا يحنث في يمينه إن كان لفلان على فلان ألف فادعى عليه فأنكر فحلف ثم أقام المدعى البينة أن له عليه ألفًا، وقيل عند أبى يوسف: يظهر كذبه، وعند محمد لا يظهر، وفى النهاية: لو اصطلحا على أن المدعى لو حلف، فالمدعى عليه ضامن للمال وحلف فالصلح باطل ولا شئ على المدعى عليه.

وفى حاشية الشلبى نقلًا عن الدراية أن الفتوى في دعوى الدَّيْن إن ادعاه من غير سبب فحلف ثم أقام بينة يظهر كذب المدعى عليه، وإن ادعى الدين بسبب وحلف ثم أقام المدعى بينة على السبب لا يظهر كذبُه لجواز أنه وجد القرض ثم وجد الإبراء أو الإلغاء كذا في الفصول (١).

هل يُستحلف المنكر مع وجود البينة الحاضرة في المصر؟

ولو قال المدعى: لى بينة حاضرة وطلب اليمين لم يستحلف، وهذا عند أبى حنيفة رَحِمهُ الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمُه الله تعالى: يستحلف، ومحمد مع أبى حنيفة في رواية، ومع أبى يوسف في رواية أخرى. وهذا الخلاف فيما إذا كانت البينة حاضرة في المصر، فإن كانت خارج المصر يحلف بالإجماع، وإن كانت في مجلس الحكم لا يحلف بالإجماع، ولأبى يوسف رحمه الله تعالى أن اليمين حقه بالحديث، وله غرض صحيح في الاستحلاف؛ وهو أن يدفع به مؤنة المسافة ويتوصل إلى حقه في الحال بإقراره أو نكوله، وفى البينة احتمال، فلعلها لا تقبل فيجيبه إذا طلبه كما إذا كانت خارج المصر، ولأبى حنيفة رحمه الله تعالى أن ثبوت الحق في اليمين مرتب على العجز عن إقامة البينة، فلا يكون حقه دونه، كما إذا كانت البينة حاضرة في المجلس بخلاف ما إذا كانت خارج المصر؛ لأنه قد يتعذر عليه الجمع بين خصمه وشهوده فيكون عاجزًا ولأنه في استحلافه مع حضور الشهود هتك المسلم إذا أقام البينة بعد ما حلف فيجب أن يتوفاة، وقيل لخصمه: أعطه كفيلًا بنفسك ثلاثة أيام كيلا يضيع حقه بتغييبه نفسه، وفيه نظر للمدعى، وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه؛ لأن بحضور واجب عليه إذا طلبه (٢).

رابعًا: الدعاوى التي لا يستحلف فيها المنكر والتي يستحلف فيها:

ولا يسْتَحْلَفَ المنكرٌ في دعاوى النكاح كما إذا ادعى الرجل النكاح وأنكرت المرأة أو بالعكس، ولا في دعوى الرجعة إذا ادَّعى الرجل بعد الطلاق وانقضاء العدة الرجعة في العدة وأنكرت المرأة أو بالعكس، ولا في دعوى الفئ إذا ادعى الرجل


(١) حاشية الشلبى: ٤/ ٢٩٦ بهامش تبيين الحقائق للزيلعى.
(٢) حاشية الشلبى على الزيلعى: ٤/ ٣٠٠.