للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بعد انقضاء مدة الإيلاء الفئ وفى المدة وأنكرت المرأة أو بالعكس، ولا في دعوى الاستيلاد إذا ادعت الأمةُ على مولاها أنها ولدت منه ولدًا أو ادعاها وقد مات الولد، ولا يجرى في هذه المسألة العكسُ؛ لأن المولى إذا ادعى ذلك تصير أمّ ولد بإقراره ولا اعتبار بإذكار الأمة، ولا في دعوى الرق والنسب إذا ادعى الرجل على مجهول النسب أنه عبدُه أو ولدُه وأنكر المجهولُ أو بالعكس أو اختصما في ولاء العتاقة أو ولاء الموالاة على هذه الوجه، ولا يستحلف في دعوى الحد كما إذا ادعى رجل على آخر أنك قذفتنى بالزنا وعليك الحد، ولا في دعوى اللعان، كما ادعت المرأة على الزوج أنك قذفتنى بالزنا، وعليك الحد (١).

وقال القاضي الإمامُ فخرُ الدين رحمه الله تعالى، الفتوى على أنه يُستحلف المنكر في الأشياء الستة أي في الأشياء التي سبق ذكرها ما عدا الحدَّ واللعانَ، وهو قول أبى يوسف ومحمد، والقول الأول قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ووجه ما قاله أبو يوسف ومحمد أن هذه حقوق تَثْبتُ مع الشبهات فيجرى فيها الاستحلافُ كالأموال بخلاف الحدود واللعان، وهذا لأن فائدة الحلف ظهور الحق بالنكول، والنكول إقرار؛ لأن اليمين واجبُ فتركهُ دليلٌ على أنه باذلٌ أو مقرٌّ، ولا يمكن أن يجعل باذلًا؛ لأنه يجوز ممن لا يجوز البذلُ منه كالمكاتب والعبد المأذون له في التجارة، وكذا يجوز في الدين، ولا يجوز بذله، ويجب على القاضي أن يقضى بالنكول. ويصحٌ إيجابُه في الذمة ابتداءً، ولو كان بذلًا لما صح ولا وجب، فتعين أن يكون مقرًا، والإقرار يجرى في هذه الأشياء لكنه إقرار فيه شبهة البذل فلا يثبت به ما يسقط بالشبهات بذلًا لما صح، ولا وجب وكذا يجب القصاص به فيما دون النفس ويصح في الشائع فيما يقسَّم ولو كان؛ لأنه كالحدود واللعان، وهذا لأن نكولَه يدل على أنه كاذب في الإنكار. ولولا ذلك لما نكل، لأن اليمين الصادقة فيها الثوابُ بذكر الله تعالى على وجه التعظيم وصيانة ما له وعرضه بدفع تهمة الكذب عن نفسه، والعاقل يميل إلى مثل هذه، واليمين الكاذبة فيها هلاك النفس، فالظاهر أنه أعرض عنها مخالفة الهلاك ومخالفةٌ لهواه وشح نفسه وإيثارًا للرجوع إلى الحق؛ إذ هو أولى من التمادى على الباطل، قال الله تعالى، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (٢) فيكون إقرارُه ضرورة. ووجه ما قاله أبو حنيفة من أن المنكر لا يستحلف في الأشياء الستة أن النكول بذل وإباحة، وهذه الحقوق لا يجرى فيها البذل والإباحة فلا يقضى فيها بالنكول كالقصاص في النفس وكالحدود واللعان، وفى حمله على البذل صيانة عرضه من الكذب فكان أولى؛ ولهذا لا يجوز إلّا في مجلس القاضي وقضائه، ولو كان إقرارًا لجاز مطلقًا بدون القضاء (٣).

ثم قال صاحب (تبيين الحقائق): إن الدعوى في هذه المسائل تتصور من أحد الخصمين أيهما كان إلا الحد واللعان والاستيلاد، فإنه لا يتصور


(١) حاشية الشلبى على هامش تبيين الحقائق: ٤/ ٣٩٧.
(٢) سورة الحشر، الآية: ٩.
(٣) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ٤/ ٢٩٧.