للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإن حلف المنكر مع غيبة البينة ثم أحضر المدعى بينته حكم له بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق؛ لقول عمر - رضي الله عنه -: (البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة) (١) ولأن كل حال يجب عليه فيها الحق بإقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين، ولأن اليمين لو أزالت الحق لاجترأ الفسقة على أموال الناس.

وإن سكت المدعى عليه فلم يقر ولم ينكر أو قال المدعى عليه: لا أقر ولا أنكر، أو قال: لا أعلم قدر حقه، قال له القاضي: احلف وإلا جعلتك ناكلًا وقضيت عليك؛ لأنه ناكل لما توجه عليه الجواب فيه، فيحكم عليه بالنكول عنه كاليمين، والجامع بينهما أن كل واحد من القولين طريق إلى ظهور الحق ويسن تكراره من الحاكم ثلاثًا (٢).

ولو أقام المدعى شاهدًا واحدًا فلم يحلف المدعى مع شاهده وطلب يمين المدعى عليه فأحلف له ثم أقام شاهدًا آخر بعد ذلك كملت بينته وقضى بها كما لو لم يكن استحلف المدعى، وإن قال المدعى عليه: لى مخرج مما ادعاه المدعى لم يكن مجيبًا؛ لأن الجواب إقرار أو إنكار، وهذا ليس واحدًا منهما.

فإن عجز المدعى عليه عن بينة القضاء أو الإبراء حلف المدعى على نفى ما ادعاه من القضاء والإبراء؛ لأن الأصل عدمه، واستحق ما ادعى به؛ لأن الأصل بقاؤه، فإن نكل المدعى عن اليمين قضى عليه بنكوله وصدّق المدعى عليه؛ لأنه منكر توجهت عليه اليمين فنكل عنها فحكم عليه بالنكول، كما لو كان مدعى عليه ابتداء، هذا كله إن لم يكن المدعى عليه أنكر أولًا سبب الحق، فأما إن أنكره ثم ثبت فادعى قضاءً أو إبراءٌ سابقًا لإنكاره لم يسمع منه وإن أتى ببينة، فلو ادعى عليه ألفًا من عرض فقال: ما اقترضت منه شيئًا أو من ثمن مبيع، فقال: ما ابتعت منه شيئًا ثم ثبت أنه اقترض أو اشترى ببينة أو إقرار فقال: قضيته من قبل هذا الوقت أو أبرأنى من قبل هذا الوقت، لم يقبل منه، ولو أقام به بينة؛ لأن القضاء أو الإبراء لا يكون إلا عن حق سابق، وإنكار الحق يقتضى نفى القضاء أو الإبراء منه فيكون مكذبًا لدعواه وبينته فلا تسمع لذلك، واحتراز بقوله: "سابقًا على إنكاره" عما لو ادعى قضاءً أو إبراءً بعد إنكاره فإنه تسمع دعواه بعد ذلك وتقبل بينته؛ لأن قضاءه الدين بعد إنكاره كالإقرار به فيكون قاضيًا لما هو مقر به فتسمع دعواه به كغير المنكر، وإبراء المدعى بعد الإنكار إقرار بعدم استحقاقه فلا تنافى بين إنكاره وإبراء المدعى فتسمع البينة بذلك (٣).

رابعًا: الدعاوى التي يستحلف فيها المنكر والدعاوى التي لا يستحلف فيها:

جاء في (المغنى): أن الحقوق على ضربين: أحدهما: ما هو حق لآدمى. والثانى: ما هو حق لله تعالى، فحق الآدمى ينقسم قسمين: أحدهما: ما هو مال أو المقصود منه المال، فهذا تشرع فيه اليمين بلا خلاف بين أهل العلم، فإذا لم تكن للمدعى بينة حلف المدعى عليه وبرئ، وقد ثبت


(١) ورد في سنن البيهقى بلفظ: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة. انظر: سنن البيهقى، كتاب الشهادات، باب البينة العادلة: ١٠/ ١٨٢.
(٢) كشاف القناع: ٤/ ٣٠٠.
(٣) كشَّاف القناع: ٤/ ٢٠٠ - ٢٠١، وما بعدها.