للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإما على إباحة وإما على كراهة.

وعمدة ما موهوا به أن قالوا: لو كان لفظ

الأمر موضوعًا للإيجاب لم يوجد أبدًا إلا كذلك

لكن لما وجدنا بلا خلاف منكم لنا أوامر معناها الندب أو الإباحة ووجدنا نواهى بلا خوف منكم لنا معناها الكراهة وجب أن لا تصرف الألفاظ إلى بعض ما تحتمله من المعانى دون بعض إلا بدليل. قالوا وألفاظ الأوامر عندنا من الألفاظ المشتركة التي لا تختص بمعنى واحد كما بمنزلة رِجْل وعين فإن قولك رجل ليس هو بأن يوقع على العضو أولى منه بأن يوقع على جماعة الجراد وقولك عين ليس بأن يوقع على عين النظر أولى من أن يوقع على عين الماء. فكذلك قول القائل "افعل" لما وجد يراد به الندب ووجد يراد به الإيجاب لم يكن إيقاعه على الإيجاب أولى من إيقاعه على الندب إلا بدليل.

ورد عليهم بقوله: إن لكل مسمى من عرض أو جسم اسما يختص به يتبين به مما سواه من الأشياء ليقع بها التفاهم ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبدًا ولبطل خطاب الله تعالى لنا.

وقد قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (١) ولو لم يكن لكل معنى اسم متفرد به لما صح البيان أبدًا لأن تخليط المعانى هو الإشكال نفسه فإذن الأصل - الذي هو اختصاص كل معنى باسمه - ما ذكرنا بضرورة العقل وبنص القرآن.

ومضى في رده فقال: (٢) ثم نقول لهم يلزمكم إن صححتم دليلكم أنكم قد وجدتم آيات كثيرة وأحاديث كثيرة منسوخات لا يحل العمل بها أن تتوقفوا في كل آية وفى كل حديث لاحتمال كل شئ منها في نفسه أن يكون منسوخًا كاحتمال كل أمر في نفسه أن يكون ندبًا فإن التزمتم ذلك كفرتم وإن أبيتم التزامه أصبتم وكنتم قد أبطلتم دليلكم في أنه لما وجدت أوامر معناها الندب وجب التوقف عن جميع الأوامر حتى يصح أنها إما إيجاب أو ندب.

[الأمر مع القرينة]

مما سبق يتضح أن الخلاف بين الأصوليين إنما يكون إذا تجردت صيغة الأمر عن القرينة أما إذا وجدت القرينة فإنها تعين المعنى المقصود من الأمر.

ولما كان المعنى الحقيقى لا يحتاج إلى قرينة فإن عامة الأصوليين الذين ذهبوا إلى أن الصيغة تفيد الوجوب على سبيل الحقيقة يذهبون هذا المذهب إذا تجردت الصيغة عن القرينة فإذا وجدت قرينة تفيد الوجوب كانت مؤكدة للمعنى الأصلى أما إذا دلت على معنى آخر من المعانى المجازية للصيغة صرفته عن معناه الحقيقى.

ومثل ذلك ينطبق على مذهب القائلين بأن الصيغة حقيقة في الندب أو أنها حقيقة في الإباحة.

وأما القائلون بالاشتراك فهم لا يتوقفون في المعنى الوضعى للصيغة إذ أنها عندهم موضوعة لكل معنى من المعانى التي تدل عليها الصيغة بالاشتراك ولكن المشترك تتوقف دلالته على أحد معانيه الحقيقية بخصوصه على وجود القرينة فالقرينة عند من قال بالاشتراك هي التي تحدد


(١) آية ٤ سورة إبراهيم.
(٢) الإحكام لابن حزم جـ ٣ ص ٥.