للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يمينه" (١)، فصار اليمينُ حقًّا له؛ لإضافته إليه بلام التمليك. وإنما صار حقًّا له؛ لأن المنكرَ قصد إثواء حقه على زعمه بالإنكار فمكنه الشارع من إثواء نفسه باليمين الكاذبة وهى الغموس، إن كان كاذبًا كما يزعم، وهو أعظم من إثواء المال وألا يحصل للحالف الثواب بذكر اسم الله تعالى وهو صادق على وجه التعظيم، ولا ترد اليمين على المدعى؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أعطى الناسُ بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، لكن اليمين علي المدعى عليه" (٢).

جعل جنس اليمين على المنكر؛ لأن الألف واللام للاستغراق، وليس وراءه شئ آخر حتى يكون على المدعى، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" قَسَمَ بينهما والقسمة تنافى الشركة وفيه الألف واللام. أيضًا - تدل على ما تقدم فيفيد استغراق البينة واليمين، ولهذا لا تقبل بينه ذى اليد.

[ثانيا: نكول المدعى عليه عن اليمين]

قالوا (٣): إن نكل المدعى عليه مرةً صريحًا بقوله: لا أحلف، أو دلالة بسكوته قُضى للمدعى على المدعى عليه، وذلك لإجماع الصحابة رضى الله عنهم أجمعين. وهو مذهب أبى موسى الأشعرى، ولأن النكول على كونه باذلًا أو مقرًا؛ إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين أداء للواجب ودفعًا للضرر عن نفسه فترجحت هذه الجهةُ على غيرها من الترفع والتورع والاشتباه؛ لأن الظاهر أنه يأتى بالواجب فلا يترفع عن الصادقة، والظاهر من حال المسلم أنه لايكذب فلا يكون نكولُه تورعًا عن الكاذبة ظاهرًا باعتبار حاله، ولو كان لاشتباه الحال لاستمهل حتى ينكشف له الحال فتعين أن يكون لأجل البذل ولا وجه لرد اليمين على المدعى، لما روينا من أن اليمين على المنكر، ويعرض القاضي اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات ندبًا، يقول له في كل مرة: إنى أعرض عليك اليمين، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه؛ إعلامًا له للحكم؛ لأنه موضع خفاء.

فإذا كرر عليه الإنذار والعرض ولم يحلف حكم عليه إذا علم أنه لا آفة به من طرش وخرس وعن أبى يوسف ومحمد. رحمهما الله تعالى. أن التكرار حتم حتى لو قضى القاضي بالنكول مرة لا ينفذ، والصحيح أنه ينفذ، والعرض ثلاثًا مستحب. وهو نظير إمهال المرتد ثلاثة أيام فإنه مستحب فكذا هذا، مبالغةٌ في الإنذار، ولابد أن يكون النكول في مجلس القاضي لأن المعتبَر يمينٌ قاطع للخصومة ولا يعتبر باليمين عند غيره في حق الخصومة فلا يعتبر.

ثالثًا: ظهور البينة بعد اليمين:

إذا حلف المدعى عليه فالمدعى على دعواه ولا يبطل حقه بيمينه، إلا أنه ليس له أن يخاصمه ما لم يقم البينة على دفعه دعواه، فإن وَجَدَ بينة أقامها عليه وقُضى له بها، وبعض القضاة من السلف كانوا لا يسمعون البينة بعد الحلف، ويقولون: يترجح جانب صدقة باليمين فلا تقبل


(١) في صحيح البخارى قريب من هذا، انظر: صحيح البخارى، كتاب الشهادات؛ باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود: ٢/ ٩٤٩.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) المرجع السابق: ٤/ ٢٩٥.