للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الدينى قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطانى والعُصْبَانى .. فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف …

سأل رجل عليا - رضي الله عنه -: ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبى بكر وعمر ..

فقال على: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلى وأنا اليوم وال على مثلك ..

ويشير بذلك إلى وازع الدين .. أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى على بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا .. وكيف أنكرت العباسية ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المصرى وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر (يقضى عليه) حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده ..

فلابد من اعتبار ذلك في العهد، فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخصه لطفا من الله لعباده ..

وأما أن يكون العهد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من اللّه يخص به من يشاء من عباده وينبغى أن تحسَّن فيه النية ما أمكن خوفا من العبث بالمقاصد الدينية، والملك لله يؤتيه من يشاء ..

وقد عرضت هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها.

منها: ما حدث في يزيد بن معاوية من الفسق أيام خلافته .. فإياك أن تظن بمعاوية - رضى الله عنه - أنه علم ذلك من يزيد قبل العهد إليه فإنه أعدل من ذلك وأفضل. بل كان يعذله (يلومه) أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقل من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة، ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه.

فمنهم من رأى الخروج عليه، ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير - رضى الله عنهما - ومن اتبعهما في ذلك ..

ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد حينئذ هي عصابة بنى أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش وتستتبع عصبية مضر أجمع وهى أعظم من كل شوكة ولا تطاق مقاومتهم فاقتصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الوفاء بهدايته والراحة منه ..

وهذا كان شأن جمهور المسلمين والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر وتحرى الحق معروفة .. ونكتفى بهذا القدر مما ذكره ابن خلدون في ولاية العهد ..

[هل تنعقد الخلافة بالغلبة والقهر؟]

جاء في شرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى (١) وتنعقد الإِمامة بطرق:

الأول: بيعة أهل الحل والعقد.

الثاني: استخلاف الإمام وعهده لشخص بالإمامة بعده. وإذا جعل الإِمام الأمر في شأن الإمامة شورى بين جماعة فهو بمنزلة


(١) شرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى جـ ٢ ص ٢٧١.