للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال القاضى: وإنما خصوا هذه المواضع لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ.

قال الزركشى: وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا فى كل عصر، بل فى عصر الصحابة فقط‍.

قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازى: قيل إن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين، فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء فى هذه البقاع، ولكنهم لم يجتمعوا فيها (١).

وجمهور الأصوليين على غير هذا الرأى، ولم يقل بذلك أحد من المذاهب التى تقول بالإجماع، والحجة فى ذلك أنهم بعض الأمة، والأدلة التى ثبتت بها حجية الإجماع متناولة لأهل الحل والعقد كلهم كما سبق.

تاسعا: إجماع الأكثر

مع مخالفة الأقل

اختلف العلماء فى انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل، ومنهم من يعبر عن ذلك بندرة المخالف أى قلته غاية القلة، كإجماع من عدا ابن عباس على العول مع مخالفته فيه، وإجماع من عدا أبا موسى الأشعرى على أن النوم ينقض الوضوء مع مخالفته فى ذلك، وإجماع من عدا أبا طلحة على أن أكل البرد يفطر، مع مخالفته فى ذلك.

فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد.

قال الآمدى فى تأييد هذا المذهب:

والمختار مذهب الأكثرين، ويدل عليه أمران:

الأول: أن التمسك فى كون الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة فى السنة، الدالة على عصمة الأمة وعند ذلك فلفظ‍ «الأمة» فى الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين من المسلمين فى أى عصر كان، أى جميع أهل الحل والعقد منهم، ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال: بنو تميم يحمون الجار، ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر، لكن حمله على الأكثر بطريق المجاز. ولا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة، ولهذا يصح أن يقال اذا شذ عن الجماعة واحد، ليس هم كل الأمة، ولا كل المؤمنين، بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد، وعلى هذا فيجب حمل لفظ‍ «الأمة» على الكل.

الثانى: أنه قد جرى مثل ذلك فى زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم على خلاف الواحد، بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر، ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير، لما كان كذلك، أى لما سوغوا له أن يجتهد، وقد أجمعوا ولبادروا بالإنكار والتخطئة (٢).

وهذا الرأى هو الذى اختاره جمهور علماء المذهب وساروا فى كتبهم على ترجيحه (٣).


(١) إرشاد الفحول للشوكانى ص ٧٨.
(٢) الأحكام للآمدى ملخصا من المسألة الثامنة التى تبدأ ص ٣٣٦ ج‍ ١.
(٣) اقرأ فى ذلك المستصفى للغزالى ص ١٨٦ ج‍ ١ للشافعية، وحاشية عبد العزيز البخارى على كشف الأسرار ص ٩٦٦ ج‍ ٣ للحنفية، والآمدى فى الموضع الذى ذكرناه للشافعية، وروضة الناظر ص ٣٥٨ ج‍ ١ للحنابلة، وهداية العقول ص ٥٨٨ ج‍ ١ للزيدية، وطلعة الشمس للإباضية ص ٧٨ ج‍ ٢.