للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انقطاع الولاية بسبب تباين الدارين: دار الحرب ودار الإسلام]

[مذهب الحنفية]

جاء في (بدائع الصنائع): أن من الأحكام التي تترتب على إيمان المؤمن في الدنيا عصمة النفس والمال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (١) إلا أن عصمة النفس تثبت مقصودة وعصمة المال تثبت تابعة لعصمة النفسة؛ إذ النفس أصل في التخلق والمال خُلِقَ بذله للنفس استيفاءً لها فمتى تثبت عصمة النفس تثبت عصمة المال تبعًا إلا إذا وجد القاطع للتبعية؛ فعلى هذا إذا أسلم أهلٌ بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يظهر عليهم المسلمون حَرَم قتلُهم ولا سبيل لأحد على أموالهم؛ وقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أسلم على مال فهو له" (٢) ولو أسلم حربى في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم عمدًا أو خطأ فلا شئ عليه إلا الكفارة. وعند أبى يوسف عليه الدية في الخطاء لقول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (٣) أوجب سبحانه وتعالى الكفارة وجعلها كلَّ موجب قتل المؤمن الذي هو من قوم عدو لنا؛ لأنه جعله جزاءً والجزاء ينبيء عن إلكفاية فاقتضى وقوع الكفاية بها عما سواها من القصاص والدية جميعًا. ولأن القصاص لم يشرع إلا لحكمة الحياة قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (٤) والحاجة إلى الأحياء عند قصد القتل لعداوة حاملة عليه ولا يكون ذلك إلا عند المخالطة ولم توجد هنا، وعلى هذا إذا أسلم ولم يهاجر إلينا حتى ظهر المسلمون على الدار فما كان في يده من المنقول فهو له؛ ولا يكون فيئًا إلا عبدًا يقاتل فإنه يكون فيئًا؛ لأن نفسه استفادت العصمة بالإسلام وماله الذي في يده تابع له من كل وجه فكان معصومًا تبعًا لعصمة النفس إلا عبدًا يقاتل؛ لأنه إذا قاتل فقد خرج من يد الموْلَى فلم يبق تبعًا له فانقطعت العصمة لانقطاع التبعية فيكون محلًا للتملك بالاستيلاء. وكذلك ما كان في يد مسلم أو ذمى وديعة له فهو له ولا يكون فيئًا؛ لأن يد المودع يدُه من وجه من حيثُ إنه يحفظ الوديعة له ويد نفسه من حيث الحقيقة. وكل واحد منهما معصوم فكان ما في يده معصومًا فلا يكون مَحلًا للتملك. وأما ما كان في يد حربى وديعة فيكون فيئًا عند أبى حنيفة. وعندهما يكون له؛ لأن يد المودع يده فكان معصومًا؛ والصحيح قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى؛ لأنه من حيث إنه يحفظ له تكون يدُه فيكون تبعًا له فيكون معصومًا؛ ومن حيث الحقيقة لا يكون معصومًا؛ لأن نفس الحربى غيرُ معصومة فوقع الشك في العصمة فلا تثبت العصمة مع الشك؛ وكذا عقاره يكون فيئًا عند أبى حنيفة وأبى يوسف؛ وعند محمد هو والمنقول سواء؛ والصحيح قولهما؛ لأنه من حيث إنه


(١) الحديث بنفس اللفظ في سنن النسائي، كتاب الجهاد؛ باب وجوب الجهاد؛ والحديث أصله في الصحيحين بلفظ مقارب في عدة مواضع منها في صحيح البخارى: في كتاب الإيمان. باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. هو في صحيح مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(٢) ذكره ابن حجر في الدراية (٢/ ١٢١) وقال: أخرجه أبو يعلى وابن عدى من حديث أبى هريرة بلفظ: "على شئ" وإسناده ضعيف. ورواه سعيد بن منصور من طريق عروة مرسلًا. وإسناده صحيح. وانظر كلام الزيلعي عن الحديث في: نصب الراية ٣/ ٤١٠.
(٣) سورة النساء، الآية: ٩٢.
(٤) سورة البقرة، الآية: ١٧٩.