وتقصر عنها في عدم تناولها لأية دعوى خارجة عن نطاق المنكرات الظاهرة فلا يختص والى الحسبة بسماع شئ من الدعاوى في العقود والمعاملات وتزيد عليها في أنها تتناول بعض ما لا تتناوله ولاية القضاء إذ لوالى الحسبة أن ينظر فيما عليه الناس فإن تركوا معروفا أمرهم به وإن رآهم على منكر نهاهم عنه وإن لم يترافع إليه في ذلك خصم ولم يستعده مستعد ثم لوالى الحسبة من القوة والسلاطة والاستطالة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة ما بين ولاية الحسبة وولاية القضاء من فرق أما ما بينها وبين ولاية المظالم فهى تشبهها في أنها تقوم على سلاطة السلطة وقوة الصرامة وجواز التعرض لأسباب تقتضيها المصالح العامة والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهر وتختلف عنها ولاية المظالم في أنها تتناول ما يعجز عنه القضاء ولذا كانت ولاية المظالم أرفع الولايات.
[طريق الحسبة]
الاحتساب يعد من الولاية العامة الشرعية إذا ما أسند إلى شخص من الأشخاص كولاية القضاء وله طرق توصل إليه كما أن للقضاء طرقا توصل إليه وهى الدعوى ووسائل إثباتها غير أن طريقه يختلف عن طريق القضاء فالاحتساب يقوم على الاستعداء أو المشاهدة والعلم فإذا كان في حق من الحقوق الخاصة التي لا حق لمجموع الأمة فيها كان طريقه الاستعداء من صاحب الحق وليس للمحتسب أن يتدخل بالمنع والتغيير إلا بناء على طلب صاحب الحق واستعدائه وذلك كما إذا اعتدى إنسان على دار لآخر فسكنها بدون حق أو اغتصب شخص من آخر مالا وذلك لجواز ترك صاحب الحق حقه لمن اعتدى عليه فلا يكون مع هذا الترك ظهور لما اقترف من المنكر إذ قد يكون صاحب الحق في هذه الحال قد أباحه لمن هو في يده. والمحتسب إنما يتدخل عند ظهور المنكر وعدم احتمال زواله ورفعه. والاستعداء في هذه الحال يشبه الدعوى تطلب للقضاء غير أنه لا يطلب من المحتسب إلا التثبت من صحة الخبر بأى طريق من الطرق إما عند الخفاء والإنكار ممن نسب إليه الاعتداء فلا يتدخل المحتسب لأنه لا يسمع دعوى ولا يوجه عيبا ولا يتجسس. ذلك إذا كان المنكر متمثلا في الاعتداء على حق خاص أما إذا كان متمثلا في حق من حقوق الله تعالى بأن يظهر اعتداء على مرفق عام أو حق يغلب فيه حق الله فإنه في هذه الحال يقوم على المشاهدة والعلم الشخصى سواء أكان ذلك بواسطة المحتسب نفسه أو بواسطة أعوانه لأنهم في الواقع ولاة من ولاة الحسبة بسبب تعيينهم فيها.
ويجوز أن يقوم الاحتساب في هذه الحال على الإمارات الظاهرة فإذا سمع المحتسب أصوات استغاثة أو أصواتا منبثقة من اقتراف جريمة وجب عليه أن يتدخل وإن لم ير الجريمة نفسها لأن العلم كما يكون بالنظر يكون بالسمع. وليس للمحتسب على العموم أن يتعرف على المنكر بالتجسس ولا باستراق السمع ولا باستنشاق الروائح التي تدل عليه ولا برفع المستور لينظر ما وراءها. وهذه كانت سنة الخلفاء الراشدين وما يتفق مع ما نهى عنه الكتاب من التجسس. والاحتساب لا يكون إلا حيث يرى أن منكرا يقترف أو معروفا يترك وكان ذلك هديه - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياته إذ كانت حياته حافلة بنهيه عن المنكرات وأمره بالمعروف وكان أكثر نهيه نهيا