للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بين الندب والإباحة وإن لم يوجد القول بالندب في عامة الكتب. وإنما وقع ذلك من البزدوى لتأثره بما قيل في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} (١) أن الأمر للندب حتى قيل إنه يستحب إجراء العقود في هذه الساعة لندب الله إليه. ونقل عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا انصرفت من صلاة الجمعة فساوم بشئ وإن لم تشتره.

ثالثًا: المتأخرون من الأصوليين:

قال صدر الشريعة: (٢)

إن الأمر بعد الحظر كالأمر قبله للأدلة التي أوردناها قبل ذلك للقائلين بذلك. وهناك رأى يقول إنه بعد الحظر للندب كما يدل عليه قوله سبحانه: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وقيل للإباحة كما في آية {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. (٣)

ثم رد ذلك بأن كلا من الندب والإباحة في الآيتين ثبت بالقرينة فإن الابتغاء والاصطياد إنما أمر بهما لحق العباد ومنفعتهم فلا ينبغى أن يثبتا على وجه تنقلب المنفعة مضرة بأن يجب عليهم.

وعلق السعد على ذلك فقال:

اختلف القائلون بأن الأمر للوجوب في موجب الأمر بالشئ بعد حظره وتحريمه فالمختار أنه أيضًا للوجوب بالدلائل المذكورة فإنه لا يفرق بين الواردة بعد الحظر وغيره.

ولقائل أن يقول: الدلائل المذكورة إنما هي في الأمر المطلق والورود بعد الحظر قرينة على أن المقصود رفع التحريم لأنه المتبادر إلى الفهم وهو حاصل الإباحة. والوجوب أو الندب زيادة لابد لها من دليل.

وقيل للندب كالأمر بطلب الرزق وكسب المعيشة بعد الانصراف من الجمعة وعن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - "إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشئ وإن لم تشتره".

وقيل للإباحة كالأمر بالاصطياد بعد الإحلال.

وأجيب بأن المثال الجزئى لا يصحح القاعدة الكلية لجواز أن يثبت الندب والإباحة في الآيتين بمعونة القرينة وهى أن مثل الكسب والاصطياد إنما شرع حقًّا للعبد فلو وجب لصار حقًّا لله تعالى عليه فيعود على موضوعه بالنقص.

وذكر الإمام السرخسى أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} للإيجاب لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "طلب الكسب بعد الصلاة فريضةً بعد الفريضة" وتلى قوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}.

واعلم أن المشهور في كتب الأصول أن الأمر المطلق بعد الحظر للإباحة عند الأكثرين وللوجوب عند البعض وذهب البعض إلى التوقف. وليس القول بكونه للندب مما ذهب إليه البعض.

ولا نزاع في الحمل على ما يقتضيه المقام عند انضمام القرينة.

وأما ابن السبكى والمحلى فيتجهان (٤) إلى أن صيغة "افعل" إن وردت بعد حظر لمتعلقه فللإباحة حقيقة لتبادرها إلى الذهن في ذلك


(١) آية ١٠ سورة الجمعة.
(٢) التنقيح والتوضيح جـ ٢ ص ٦٢.
(٣) آية ٢ سورة المائدة.
(٤) جمع الجوامع وشرحه جـ ١ ص ٤٣١.