للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال البخارى في تعليقه: (١)

إن جمهور الأصوليين على أن موجب الأمر المطلق قبل الحظر وبعده سواء فمن قال بأن موجبه التوقف أو الندب أو الإباحة قبل الحظر فكذلك يقول بعده ومن قال إن موجبه الوجوب قبل الحظر فعامتهم على أن موجبه الوجوب بعد الحظر أيضًا. وذهبت طائفة إلى أن موجبه قبل الحظر الوجوب وبعده الإباحة وعليه دل ظاهر قول الشافعي في أحكام القرآن. ثم قال: إن هذا هو المشهور المذكور في عامة الكتب. واستدرك على هذا بقوله: رأيت في نسخة من أصول الفقه أن الفعل إن كان مباحًا في أصله ثم ورد حظر معلق بغاية أو بشرط أو لعلة عرضت فالأمر الوارد بعد زوال ما علق الحظر به يفيد الإباحة عند جمهور أهل العلم كقوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} لأن الصيد كان حلالًا على الإطلاق ثم حرم بسبب الإحرام فكان قوله تعالى {فَاصْطَادُوا} إعلامًا بأن سبب التحريم قد ارتفع وعاد الأمر إلى أصله.

وإن كان الحظر واردًا ابتداء غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط ولا غاية فالأمر الوارد بعده هو المختلف فيه.

ثم نقل عن المعتمد أن الأمر إذا وجد بعد حظر عقلى أو شرعى أفاد ما يفيده لو لم يتقدمه حظر من وجوب أو ندب. وقال بعض الفقهاء إنه يفيد بعد الحظر الشرعى الإباحة.

واحتج من قال إنه يفيد الإباحة بأن هذا النوع من الأمر يفيد الإباحة في أغلب الاستعمال وساق أمثلة من الكتاب والأحاديث تدل على ذلك ثم أورد مثالًا عرفيًا وهو قول الرجل لعبده ادخل الدار بعد أن قال له لا تدخل فإنه يفهم منه الإباحة دون الوجوب لأن الحظر المتقدم قرينة دالة على أن المقصود رفع الحظر لا الإيجاب. كما أن عجز المأمور قرينة دالة على أن المقصود إظهار عجزه لا وجود الفعل فصار كأن الآمر قال: قد كنت منعتك عن كذا فرفعت ذلك المنع وأذنت لك فيه.

وقال: إن العامة تحتج بأن المقتضى للوجوب قائم وهو الصيغة الدالة على الوجوب إذ الوجوب هو الأصل فيها والعارض الموجود لا يصلح معارضًا لذلك لأنه كما جاز الانتقال من المنع إلى الإذن جاز الانتقال منه إلى الإيجاب. كيف وقد ورد الأمر بعد الحظر للوجوب أيضًا كقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (٢) وقوله عز وجل {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} وكأمر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم بعد زوال المانع وغير ذلك من الأمثلة. ثم قال: فهذا كله يفيد الوجوب وإن كان بعد الحظر.

فثبت بما ذكرنا أن الحظر المتقدم لا يصلح قرينة لصرف الصيغة عن الوجوب إلى الإباحة كما أن الإيجاب المتقدم لا يصلح قرينة لصرف النهى الوارد بعده عن التحريم إلى الكراهة والتنزيه بالاتفاق. وإنما فهمت الإباحة فيما استدلوا به بقرائن غير الحظر المتقدم فإنه لولا الحظر المتقدم لفهم منها الإباحة أيضًا.

وعلق البخارى على قول البزدوى: "ومنهم من قال بالندب والإباحة" فقال: (٣) إنما جمع الشيخ


(١) المصدر السابق.
(٢) آية ٥ سورة التوبة.
(٣) المصدر السابق.