للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثالثًا: ظهور البيِّنة بعد اليمين:

جاء في (العروة الوثقى): الظاهرُ أن المنكر عند عدم البينة حقٌّ للمدعِى لا أن يكون حكمًا شرعيًا؛ وحينئذ فله إبراؤه منه وإسقاطه، وإذا أسقطه فكأنه حلف، فعلى الحاكم أن يحكم ببراءته من الحق في الظاهر، وليس له استئنافُ الدعوى ومطالبة حلفه. نعم لو كانت بينةٌ تُسمع دعواه، واختاره صاحب المستند من جواز استئناف الدعوى؛ لأن الحق الواقعى على فرضه لا يسقط بهذا الإبراء والإسقاط، فله استئناف الدعوى ومطالبة الحلف، لأن هذه دعوى مغايرة للتى أُبرئ من اليمين فيها، وهذا لا وجه له؛ لأن الحق الواقعى وإن كان لا يسقط بهذا الإسقاط محكوم عليه بالعدم في الظاهر. وظاهر كلامهم أن حلف المنكر - وإن كان بأمر الحاكم - لا يكفى في الحكم بسقوط الدعوى؛ بل يحتاج إلى حكمة بالبراءة، فلو مات قبل أن يحكم فهو كما لو مات بعد إقامة المدعِى للبينة قبل أن يحكم (١).

وقد يُتوهم من ظاهر النصوص سقوط الدعوى بمجرد حصول اليمين من المنكر من غير حاجة إلى إنشاء حكم من الحاكم بذلك، لكن التحقيقَ خلافُه ضرورة كون المراد من هذه النصوص وما شابهها تعليم ما يحكم به الحاكم، وإلا فلا بد من القضاء والفصل بعد ذلك كما أومأ إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أقضى بينكم بالبيانات والأيمان" (٢)، بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص وشبهها لم يحتج إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقًا ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدعى وثبوت الحق بالبينة ونحوها، فتأمل جيدًا (٣).

رابعًا: الدعاوى التي يُسْتَحْلَف فيها المنكر والدعاوى التي لا يُسْتَحْلَف فيها:

جاء في (العروة الوثقى): (٤) أنه تثبت اليمين في جميع الدعاوى مالية كانت أو غيرها كالنكاح والطلاق والرجعة والقتل وغيرها، نعم يستثنى من ذلك الحدود؛ فإنها لا تثبت إلا بالإقرار أو البينة ..

إذا كانت الدعوى مركبة من حق الله وحق الناس كالسرقة، فبالنسبة إلى حق الناس تثبت، ولا تثبت بالنسبة إلى حق الله. فإذا ادعى عليه أنه قذفه بالزنا فأنكر يجوز له أن يستحلفه فإن حلف برئ، وإن رد اليمين على المدعى فحلف حُدَّ حَدَّ القذف. وإذا كان المدعى وليًا إجباريًا فإن كان له بينة والأمر ظاهر، وإلا فيجوز له استحلاف المدعى عليه مع المصلحة، فإن خلف سقطت الدعوى، وإن رد اليمين عليه فإن كان المدعى به مما يرجع إلى تصرفه نفيًا أو إثباتًا فالظاهر أن له أن يحلف؛ لأنه حلف على فعله أو تركه، وإن كان نفيه للضر وإلا فإن ادعى دينًا للمولى عليه على شخص فيحتمل جواز حلفه أيضًا لعدم عموم يدل على عدم جواز الحلف على مال الغير، ويحتمل إيقاف الدعوى إلى بلوغ المولى عليه ورشده، ويحتمل الحكم بثبوت الحق


(١) العروة الوثقى: ٣/ ٦٣.
(٢) لم نجده بهذا اللفظ فيما بين أيدينا من كتب.
(٣) العروة الوثقى: ٣/ ٦٤.
(٤) المرجع السابق:٣/ ١٠٣.