ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بين الناس وبعث عليا كرم الله تعالى وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس، ولأن الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى عنهم حكموا بين الناس، وبعث عمر رضى الله تعالى عنه أبا موسى الأشعرى إلى البصرة قاضيا وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا ولأن الظلم في الطباع فلابد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحد تعين عليه ويلزمه طلبه، وإذا امتنع أجبر عليه لأن الكفاية لا تحصل إلا به فإن كان هناك من يصلح له غيره نظرت فإن كان خاملا وإذا ولى القضاء انتشر علمه استحب أن يطلبه لما يحصل به من المنفعة بنشر العلم، وإن كان مشهورا فإن كانت له كفاية كره له الدخول فيه لما روى أن النبى - صلي الله عليه وسلم - قال:"من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين" ولأنه يلزمه بالقضاء حفظ الأمانات وربما عجز عنه وقصر فيه فكره له الدخول فيه، وإن كان فقيرا يرجو بالقضاء كفاية من بيت المال لم يكره له الدخول فيه لأنه يكتسب كفاية بسبب مباح، وإن كان جماعة يصلحون للقضاء اختار الإِمام أفضلهم وأورعهم وقلده، فإن اختار غيره جاز لأنه تحصل به الكفاية وإن امتنعوا من الدخول فيه أثموا لأنه حق وجب عليهم فأثموا بتركه كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهل يجوز للإمام أن يجبر واحدا منهم على الدخول فيه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ليس له إجباره لأنه فرض على الكفاية فلو أجبرناه عليه تعين عليه.
والثانى: أن له إجباره لأنه إذا لم يجبر بقى الناس بلا قاض وضاعت الحقوق وذلك لا يجوز (١).
[مذهب الحنابلة]
جاء في الشرح الكبير أن الناس في القضاء على ثلاثة أضرب:
منهم: من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم تجتمع فيه شروطه، فقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "القضاة ثلاثة" ذكر منهم رجلا قضى بين الناس بجهل فهو في النار، ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه ويدفعه إلى غيره.
ومنهم: من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلى القضاء بحكم حاله وصلاحيته، ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له فظاهر كلام أحمد رضى الله تعالى عنه أنه لا يستحب له الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر في تركه من السلامة، ولما ورد فيه من التشديد والذم، ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقى، وقد أراد عثمان رضى الله تعالى عنه تولية ابن عمر رضى الله تعالى عنهما القضاء فأباه، وقال أبو عبد الله بن حامد رحمه الله تعالى إن كان رجلا خاملا لا يرجع إليه في الأحكام فالأولى له تولية ليرجع إليه في الأحكام، ويقوم به الحق وينتفع به المسلمون، وإن كان مشهورا في الناس بالعلم يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الأمن
(١) المهذب للإمام الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى جـ ٢ ص ٢٨٩، ص ٢٩٠ في كتاب أسفله النظم المستعذب في شرح تهذيب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر.