الحياة. فما أوجبه الله تعالى من طريق الوحى بدلالة لفظه الظاهرة فهو واجب، وما نهى عنه من هذا الطريق فهو المحرم، وما عدا ذلك فمباح ومنه المكروه والمندوب.
فلا اجتهاد إلا للوصول إلى حكم الوحى وفى تفهم المراد من لفظه وليس هناك اجتهاد آخر لعدم الحاجة إليه.
[ناحية الواقع]
كان المجتهدون من الصحابة والتابعين لا يتكلمون إلا فيما وقع ونزل، ولا يجتهدون فى أمر قدر وفرض ولم يقع، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يلعن من فوق منبره من يسأل عما لم يقع، فلم يكن فى هذين العصرين فقه فرضى، وإنما كان ذلك فى عهد فقهاء الأمصار، حيث كثرت المجادلات والمناظرات الفقهية التى جرت إلى الالتجاء إلى الصور المفروضة، ليتمكن المناظر من إفحام خصمه وإلزامه بما هو غير مقبول، ثم دخلت هذه الفروض فى الفقه لغير ذلك، وكان أصحاب هذه الطريقة يفخرون بأن وضع المسائل يعتبر نصف الفقه، ويبررون بحثهم عن حكم ما لم يقع بأنه استعداد للبلاء قبل وقوعه.
وكان من لا يرون ذلك يعيبون طريقة الفقه الفرضى، ويشنعون على أهله ويسمونهم الأرأيتيين (أخذا من قولهم: أرأيت كذا)، ومن الفريق الأول أبو حنيفة وأصحابه، والشافعى وأصحابه. أما مالك نفسه فكان يأبى الكلام فيما لم يقع، وكان أصحابه يتحيلون فيرسلون إليه بالمسألة من يزعم له أنها وقعت، ولما قدم إليه أسد بن الفرات بمسائل أهل العراق لم يرض بالكلام معه فيها، ولكنه أحاله على ابن القاسم.
غير أنه لم تمض إلا فترة وجيزة حتى اشتغل الكل بالفقه الفرضى، فيما بقى من طور الاجتهاد وفى طور التقليد، وإنك لتجد هذا واضحا فى المؤلفات الفقهية. والحق أنه لو قدر نجاح الفكرة التى تقاوم هذا النوع من الفقه ما كانت لنا هذه الثروة الفقهية العظمى الوافية التى نعتز ونفاخر بها.
[ج - المذاهب الفقهية]
كان لكل مجتهد من فقهاء الصحابة والتابعين من أخذوا عنه واتبعوه. غير أن الوسيلة الوحيدة إذ ذاك للنقل كانت الحفظ، ينقل عن كل مجتهد ما ذهب إليه غير مختلط بما ذهب إليه أصحابه ومن أخذ عنه. ولما بدأ التدوين دون أصحاب المجتهدين أقوالهم وأقوال أساتذتهم مجتمعة، أو أملى المجتهد مذهبه، ثم لم يلبث أصحابه أن دونوا كما دون السابقون، وأطلق فيما بعد اسم الأستاذ على المجموعة كلها، ونسب هذا المذهب المختلط إليه تكريما له واعترافا برياسته، كما هو الحال فى مذاهب أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وداود والطبرى.
أما الذين دونوا مذاهبهم بأنفسهم ولم يتدخل أصحابهم فى تدوينها كالثورى والأوزاعى وأبى ثور والليث، وأما الذين بقى حظ مذهبهم هو النقل من طريق الحفظ، فبقيت مذاهبهم مذاهب فردية لم تختلط فيها أقوالهم بأقوال غيرهم، وينقلها الآخرون فيما يدونون كما ينقلون مذاهب الصحابة والتابعين. ومنذ أواخر عصر التابعين ظهرت المذاهب الفقهية التى نشأت عن المذاهب السياسية ظهورا بينا، وهى: