ومن راض نفسه على البحث العميق سليم الطوية، وأخذ نفسه بقولة الحق وبالإنصاف، وراعى ما كان عليه القسم الأعظم الشمالى من جزيرة العرب حين ظهور الإسلام، وما كان عليه من العزلة الاجتماعية إلا فى النزر اليسير من الرحلات التجارية الموسمية، ومن الإعراض عن الشرائع الوضعية والتمسك بنظامه القبلى، وراعى أن التشريع الرومانى الذى جمع جوستنيان أمشاجة كان مقصورا على طائفة معينة ولم يؤلف فيه إلا كتاب واحد تعليمى، وأن هذا التشريع قد اختفى بانتهاء عصر جوستنيان قبل ظهور الإسلام بعشرات السنين، وراعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ما كان يدرى ما الكتاب ولا الإيمان، وراعى ما كان عليه خصوم الإسلام من المشركين واليهود من الدأب على أن يلصقوا كل نقيصة بهذا الدين وأهله، إذا راعى كل هذا وأن الموازنة بين التشريع الإسلامى والتشريع الرومانى، أظهرت ما بينهما من التباين فى المبادئ وفى القواعد وفى الأصول وفى الفروع، أيقن أن القول بأن التشريع الإسلامى قد تأثر بالتشريع الرومانى، ليس إلا فرية منكرة ونفثة مصدور، وأباطيل ينشرها أنصار الاستعمار التشريعى.
[ب - طور الاجتهاد]
والذى نعنيه بطور الاجتهاد: هو العصر الذى ظهر فيه الاجتهاد ظهورا لم ينازع فيه أحد كما أنه لم يختف فى وقت منه اختفاء متفقا عليه، وهو طور يبتدئ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ويصل إلى حدود الثلاثمائة من الهجرة. ويقع فى عهد الخلفاء الراشدين، وفى عهد الدولة الأموية، وفى الشطر الأول من الدولة العباسية، وصدر الدولة الأموية بالأندلس، وكان فيه اجتهاد فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم، واجتهاد الفقهاء التابعين كبارهم وصغارهم، واجتهاد فقهاء الأمصار الذين اشتهرت مذاهبهم وكان لهم أصحابهم وأتباعهم، وبقى من هذه المذاهب ما بقى، ومنها ما هجر وانقرض أتباعه ومقلدوه.
ولما لحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى انقطع الوحى، ولكن الواقعات متجددة، والنوازل تنزل وليس لها بعينها حكم فيما نزل به الوحى، فانفتحت للاجتهاد أبوابه الواسعة، وكان لتجدد الواقعات وحوادث النوازل فى هذا الطور عوامله العادية التى تعرفها الحياة الهادئة. وعوامل أخرى غير عادية. فكانت حروب الكذابين المتنبئين، وحروب الردة، وكانت الفتن والحروب الداخلية، فكان مقتل عثمان، وكانت واقعة الجمل، وكانت حروب علىّ ومعاوية التى ما انتهت حتى خلفت وراءها أحزابا سياسية كبرى، وكثر الكلام فى الإمامة والسياسة، وكان فى كل حزب كبير فرقه وشيعة، كما بدأ الكلام فى القضاء والقدر والأرجاء وغير ذلك مما يتصل بالعقيدة. وتعددت الأحزاب والفرق من هذه الوجهة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، توالت الفتوح الإسلامية، واتسعت الرقعة الإسلامية فى آسيا وفى أفريقيا، وفى أوربا، وبلغت الممالك الإسلامية قمة الرخاء والازدهار، وذروة الحضارة والمجد.