وكانت لكل هذه الأحداث العظيمة السارة والمحزنة آثارها البالغة فى الفقه ومصادره، أما المصادر فقد وجد منها أولا مصدران لم ينازع فيهما أحد، هما الإجماع والقياس، ثم طرأ النزاع فيهما فى الطور نفسه.
وأما الأحكام الفقهية، فكان لا مناص لها من مواجهة النوازل والأحداث فى رقعة مترامية الأطراف، ودولة ناشئة تحتاج إلى تنظيم مواردها المالية وترتيب كل أمورها، رقعة تضم أقطارا وأجناسا مختلفة، لها أعرافها وعاداتها وتقاليدها المتباينة، وفى بلادها الكثير مما لا تعرفه الجزيرة العربية من الأنهار والحيوان والزروع والمعدن وغيرها مما هو بباطن الأرض أو بظاهرها، إلى غير ذلك مما تغير به وجه الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
والفقه عليه أن يواجه كل هذا، فهو السيد وحده، وهو صاحب السلطان المطلق، فاتسع نطاقه اتساعا عظيما، وكثرت مسائله وأبوابه وصارت أضعافا مضاعفه.
والمجتهدون الأولون هم الفقهاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كغيرهم من الناس، فمنهم العامة الذين لم يعرفوا بفقه ولا رواية، وإذا نزلت بأحدهم نازلة سأل فيها أهل الذكر.
وجاءت الرواية عن نيف وثلاثمائة وألف صاحب. وجاءت الفتيا عن نيف وثلاثين ومائة صاحب، وكان منهم المكثرون الذين يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم. وكان منهم المتوسطون الذين يمكن أن يجمع من فتيا كل منهم جزء صغير، ومنهم المقلون. وليس كل من أفتى كان يسمى فقيها، وما كان يسمى فقيها منهم، كما ذكر ذلك صدر الشريعة، إلا من كانت له ملكة الاستنباط، وقد عرف بذلك وبالعلم واشتهر به أم المؤمنين عائشة، وعمر، وعلى، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وأبو بكر، وأبى، ومعاذ، وابن عوف، وأبو موسى الأشعرى، وأبو سعيد الخدرى، ومعاوية، ومن فقهاء الصحابة من كان دون هؤلاء.
وكان الفقهاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع بعضهم إلى بعض ليعرف ما عنده من سنة وفقه، فكان عمر وابن مسعود وزيد يرجع بعضهم إلى بعض.
وكذلك كان على وأبى وأبو موسى. وكانت سنة الخليفتين أبى بكر وعمر أنه إذا نزلت النازلة لا يظهر لهما فيها شئ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعا لذلك العالمين، فإن وجدت عندهم سنة أخذ بها، وإن لم توجد اجتهدوا، فإذا اجتهدوا واتفقوا كان ذلك إجماعا يجب على الكافة أن يأخذوا به، وإن اجتهدوا ولم يتفقوا وأمر ولى الأمر باتباع رأى وجبت طاعته، وإن لم يكن إجماع ولا أمر عمل كل بما أداه إليه اجتهاده. وكانت سنة الخليفتين فى هذا هى السنة التى يتبعها أمير كل مصر من الأمصار إن لم يرفع الأمر إلى الخليفة.
وكان فقهاء الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. ولما لحق بالرفيق الأعلى بدأ تفرقهم فى الجهاد، ثم ازداد تفرقهم فى عهد عمر حينما مصر