الأمصار، وأسكنها المسلمين، وأرسل إليهم الأمراء والولاة والمعلمين والعمال. وما كان يؤمر أمير على جيش أو غيره، وما كان يولى وال أو عامل، إلا أن يكون فقيها عالما، فانتشروا فى الآفاق وملأوا الأمصار فكانوا عصبة الإيمان، وأئمة الهدى، وأعلم الأمة بالأحكام وأدلتها وأفقه الناس فى دين الله، وعليهم دارت الفتيا، وعنهم انتشر العلم والفقه. وكانوا إذ ذاك بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام ومصر. وعن هذه الأمصار انتشر الفقه فى الآفاق.
وفقهاء التابعين قد ملئوا الأمصار، وقد شارك كبارهم فقهاء الصحابة فى الاجتهاد والفتيا. وكانت المصادر الفقهية فى عصر التابعين هى المصادر فى عهد فقهاء الصحابة:
الكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وإذا نزلت الحادثة ولم يجد الفقيه التابعى فيها كتابا ولا سنة ولا إجماعا من الصحابة، ووجد أقوالا لفقهاء الصحابة، نظر فيها وتخير منها واتبع عن نظر ودليل، لا عن تقليد، ومن هذا الاتباع أطلق عليهم اسم التابعين. وإذا لم يجد التابعى شيئا من ذلك اجتهد رأيه. وإذا اجتهد التابعون وأجمعوا، كان اجماعم حجة عند الكثيرين.
وذهب داود وأصحابه إلى أن إجماعهم لا يكون حجة ولا مصدرا فقهيا.
ومن الواضح أن من لا يحتج بإجماع الصحابة لا يحتج بإجماع التابعين. على أن الخلاف فى إجماع التابعين نظرى محض ما دمنا لا نعرف حكما بعينه ثبت بإجماع التابعين.
وقد اجتهد فقهاء التابعين وكانت لهم أقوال فى مختلف أبواب الفقه اتسع بها نطاقه وصار أكثر اتساعا منه فى عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد حفظت أقوالهم ونقلت عنهم ثم دونت فيما بعد، ومما يلفت النظر أنه ظهر فى هذا العهد مناقشات واضحة فى باب كبير من أبواب الفقه هو باب الوقف، فالقاضى شريح يقول: إنه باطل لا يجوز، لأنه حبس عن فرائض الله، وقد جاء محمد ببيع الحبيس، ويقول قائل آخر مثله، لأن الصدقة لا تجوز لمن لم يوجد ولا يدرى أيكون أو لا.
وفقهاء التابعين قد ملئوا الآفاق من أقصى السند وأقصى خراسان إلى أرمينية وأذربيجان إلى الموصل وديار ربيعة وديار مضر إلى أقصى الشام إلى مصر إلى إفريقية إلى أقصى الأندلس إلى أقصى بلاد البربر إلى الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب إلى العراق إلى الأهواز إلى فارس إلى كرمان إلى سجستان إلى كابل إلى أصفهان وطبرستان وجرجان إلى الجبال. وهؤلاء لم يحصهم أحد، ولكن كان من بينهم المشهورون فى كل إقليم، وهم كثيرون، يضيق مقامنا هذا عن عدهم.
وعهد الصحابة وكبار التابعين من خير القرون، وهو عهد لم يبتعد عن عصر الرسالة، والإيمان فيه لا يزال غضا، والعقائد لا تزال راسخة ولأحكام الدين المكان الأول فى نفوس المسلمين عامة، لا فرق فى ذلك بين الحاكمين والمحكومين، فهى أحكام دين، وقانون دولة إسلامية هى معقد العز وجماع الفخر لكل من ينتمى