للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل المستفتى يجب عليه الفتوى]

كان السلف (١) من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع فى الفتوى ويود كل واحد منهم ان يكفيه اياها غيره فاذا رأى انها قد تعينت عليه بذل جهوده فى معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى، وقال عبد الله بن المبارك حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم محدث الا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت الا ود أن أخاه كفاه الفتيا، وقال الامام أحمد حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم رجل يسأل عن شئ الا ود أن أخاه كفاه.

ولا يحدث حديثا الا ود أن أخاه كفاه، وقال مالك عن يحيى بن سعيد أن بكير بن الأشج أخبره عن معاوية بن أبى عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر رضى الله تعالى عنهما فجاءهما محمد بن اياس بن البكر فقال أن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا فماذا تريان فقال عبد الله ابن الزبير أن هذا الأمر مالنا فيه قول فاذهب الى عبد الله بن عباس وأبى هريرة فانى تركتهما عند عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم ثم ائتنا فأخبرنا فذهبت فسألتهما فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنه لأبى هريرة أفته يا أبى هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، وقال مالك عن يحيى بن سعيد قال: قال ابن عباس أن كل من أفتى الناس فى كل ما يسألونه عنه لمجنون قال مالك وبلغنى عن ابن مسعود مثل ذلك رواه ابن وضاح عن يوسف بن عدى عن عبيد بن حميد عن الأعمش عن شفيق عن عبد الله ورواه حبيب ابن ثابت عن أبى وائل عن عبد الله وقال سحنون ابن سعيد أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه، وفى البحر الرائق (٢): أن المفتى ان لم يكن غيره تعين عليه الافتاء وان كان هناك غيره فهو فرض كفاية ومع هذا لا يحل التسارع الى ما لا يتحقق وفى كشف الأسرار للبزدوى (٣):

الاجتهاد ثلاثة أنواع: فرض عين وفرض كفاية وندب.

أما الأولى ففى حالتين، احداهما: اجتهاد المجتهد فى حق نفسه فيما نزل به لأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره فى حق نفسه ولا فى حق غيره.

والثانية: اجتهاد فى حق غيره اذا تعين عليه الحكم فيه بأن ضاق وقت الحادثة. فانه يجب على الفور حينئذ.

وأما الثانى ففى حالتين، احداهما اذا نزلت حادثة بأحد فاستفتى أحد العلماء كان الجواب فرضا على جميعهم وأخصهم بفرضه من خص بالسؤال عن الحادثة فان أجاب واحد سقط‍ الفرض عن جميعهم وان أمسكوا مع ظهور الجواب والصواب لهم أثموا وان أمسكوا مع التباسه عليهم عذروا ولكن لا يسقط‍ عنهم الطلب وكان فرض الجواب باقيا عند ظهور الصواب.

والحالة الثانية: أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين فى النطق فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما فأيهما تفرد بالحكم سقط‍ الفرض وأما الثالث ففى حالتين أيضا.

احداهما: أن يجتهد العالم قبل نزول الحادثة ليسبق الى معرفة حكمها قبل


(١) انظر أعلام الموقعين عن رب العالمين للشيخ الامام العلامة شمس الدين أبى عبد الله محمد بن أبى بكر المعروف بابن القيم الجوزية المتوفى سنة ٥٧١ هـ‍ ج‍ ١ ص ٢٧، ص ٢٨ وما بعدهما طبع مطابع مطبعة ادارة الطباعة المنيرية.
(٢) انظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق للامام الشيخ زين الدين الشهير بابن نجيم وبهامشه حواشى منحة الخالق للشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين ج‍ ٦ ص ٢٩٠ وما بعدها طبع مطابع المطبعة العلمية بمصر سنة ١٣١٠ هـ‍ الطبعة الأولى.
(٣) انظر المجلد الأول من كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى على أصول الامام فخر الاسلام أبى الحسن على بن محمد حسين البزدوى ج‍ ٤ ص ١٣٤ وما بعدها طبع مطابع مطبعة مكتب الصنائع سنة ١٣٠٧ هـ‍ بمصر.