نزولها والثانية أن يستفتيه سائل قبل نزولها به فيكون الاجتهاد فى الحالتين ندبا كذا فى القواطع. وفى الحطاب (١): قال ابن سلمون فى وثائقه سئل ابن رشد فى الفتوى وصغة المفتى فقال الذى أقول به فى ذلك أن الجماعة التى تنسب الى العلوم يتميز عن جملة العوام بالمحفوظ والمفهوم تنقسم على ثلاث طوائف. طائفة منهم اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا بغير دليل فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه فى مسائل الفقه دون التفقه فى معانيها بتمييز الصحيح منها والسقيم وطائفة اعتقدت صحة مذهبه بما بأن لها من صحة أصوله التى بناه عليها فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه فى مسائل الفقه وتفقهت فى معانيها الصحيح منها الجارى على أصوله من السقيم الخارج الا أنها لم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول وطائفة اعتقدت صحة مذهب بما بأن لها أيضا من صحة أصوله لكونها عالمة بأحكام القرآن عارفة بالناسخ والمنسوخ والمفصل والمجمل والخاص من العام عالمة بالسنن الواردة فى الأحكام مميزة بين صحيحها من معلومها عالمة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وبما اتفقوا عليه واختلفوا فيه عالمة من علم اللسان بما يفهم به معانى الكلام عالمة بوضع الأدلة فى مواضعها فأما الطائفة الأولى فلا يصح لها الفتوى بما علمته وحفظته من قول مالك وقول أحد من أصحابه اذ لا علم عندها بصحة شئ من ذلك اذ لا يصح الفتوى بمجرد التقليد من غير علم ويصح لها فى خاصتها ان لم تجد من يصح لها أن تستفتيه أى يقلد مالكا أو غيره من أصحابه فيما حفظته من أقوالهم وان لم يعلم من نزلت به نازلة من يقلده فيها من قول مالك وأصحابه فيجوز للذى نزلت به نازلة أن يقلده فيما حكاه له من قول مالك فى نازلته ويقلد مالكا فى الأخذ بقوله فيها وذلك أيضا اذا لم يجد فى عصره من يستفتيه فى نازلته فيقلده فيها وان كانت النازلة قد علم فيها اختلافا من قول مالك وغيره فأعلمه بذلك كان حكمه فى ذلك حكم العامى اذا استفتى العلماء فى نازلته فاختلفوا عليه فيها وقد اختلف فى ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يأخذ بما شاء من ذلك والثانى أنه يجتهد فى ذلك فيأخذ فى ذلك بقول أعلمهم والثالث انه يأخذ بأغلظ الأقوال وأما الطائفة الثانية فيصلح لها اذا استفتيت أن تفتى بما علمته من قول مالك وقول غيره من أصحابه اذا كانت قد بانت لها صحته كما يجوز لها فى خاصتها الأخذ بقوله اذا بانت لها صحته ولا يجوز لها أن تفتى بالاجتهاد فيما لا تعلم فيه نصا من قول مالك أو قول غيره من أصحابه وان كانت قد بانت لها صحته اذ ليست ممن كمل لها آلات الاجتهاد الذى يصح لها بها قياس الفروع على الأصول وأما الطائفة الثالثة فهى التى يصح لها الفتوى عموما بالاجتهاد والقياس على الأصول التى هى الكتاب والسنة واجماع الأمة بالمعنى الجامع بينها وبين النازلة وعلى ما قيس عليها أن قدم القياس عليها ومن القياس جلى وخفى لأن المعنى الذى يجمع بين الأصل والفرع قد يعلم قطعيا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل وقد يعلم بالاستدلال فلا يوجب الا غلبة الظن ولا يرجع الى القياس الخفى الا بعد القياس الجلى وهذا كله يتفاوت العلماء فى التحقيق بالمعرفة به تفاوتا بعيدا وتفترق أحوالهم أيضا فى جودة الفهم لذلك وجودة الذهن فيه افتراقا بعيدا اذ ليس العلم الذى هو الفقه فى الدين بكثرة الرواية والحفظ وانما نور يضعه الله تعالى حيث يشاء فمن اعتقد فى نفسه أنه ممن تصح له الفتوى بما أتاه الله عز وجل من ذلك النور المركب على المحظوظ المعلوم جاز له أن استفتى واذا اعتقد الناس فيه ذلك جاز له أن يفتى فمن الحق للرجل أن لا يفتى حتى يرى نفسه أهلا لذلك ويراه الناس أهلا له على ما حكى مالك عن ابن هرمز، وقال ابن عرفة فى شرط الفتوى لا ينبغى لطالب العلم أن يفتى حتى
(١) انظر مواهب الجليل وبهامشه التاج والاكليل الشهير بالمواق ج ٦ ص ٩٤، ٩٥ وما بعدها الطبعة السابقة وتهذيب الفروق للقرافى ج ٢ ص ١٢٧، ص ١٢٨ وما بعدها الطبعة السابقة.