لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل .. وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبى بكر - رضى الله عنه - لعمر - رضى الله عنه - بمحضر من الصحابة وأجازوه .. وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر - رضى الله عنه - وعنهم أجمعين ..
وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة بقية العشرة المبشرين بالجنة .. وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين .. ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان - رضى الله عنهما - فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده .. فانعقد أمر عثمان لذلك .. وأوجبوا طاعته .. والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية ولم ينكره أحد منهم ..
فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته .. والإِجماع حجة كما عرف ..
ولا يُتَّهمْ الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته خلافا لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد - فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقى مفسدة فتنتفى الظنة في ذلك رأسًا ..
كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد .. وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب ..
والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بنى أمية يومئذ لا يرضون سواهم .. وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل القلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع ..
وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا .. فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك .. وحضور أكابر الصحابة ذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه، وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شئ من الأمور مباحًا كان أو محظورًا كما هو معروف عنه ..
ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير .. وتدور المخالف معروف ..
ثم أنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بنى أمية. والسفاح والمنصور والمهدى والرشيد من بنى العباس وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر إليهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وأخواتهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك ..
فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيا .. فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثره على غيره، ووكلوا كل من يسموا ذلك إلى وازعه ..