للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذلك من القرائن والأدلة بدليل أنهم قطعوا بوجوب الصلاة وتحريم الزنا والأمر محتمل للندب وإن لم يكن موضوعًا له والنهى يحتمل التنزيه. وكيف قطعوا مع الاحتمال لولا أدلة قاطعة. وما قولهم إلا كقول من يقول الأمر للندب بالإجماع لأنهم حكموا بالندب في الكتابة والاستشهاد وأمثاله لصيغة الأمر. والأوامر التي حملتها الأمة على الندب أكثر فإن النوافل والسنن والآداب أكثر من الفرائض إذ ما من فريضة إلا ويتعلق بها وبإتمامها وبآدابها سنن كثيرة.

أو نقول هي للإباحة بدليل حكمهم بالإباحة في قوله {فَاصْطَادُوا} وقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (١) وإن كان ذلك للقرائن فكذلك الوجوب.

فإن قيل وما تلك القرائن؟ قلنا: أما في الصلاة فمثل قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (٢) وما ورد من التهديدات في ترك الصلاة وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك. وأما الزكاة فقد اقترن بقوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (٣) إلى قوله {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}. وأما الصوم فقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (٤) وقوله {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وإيجاب تداركه على الحائض. وكذلك الزنا والقتل ورد فيها تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى.

فلذلك قطعوا به لا بمجرد الأمر الذي منتهاه أن يكون ظاهرًا فيتطرق إليه الاحتمال وقد رأى الآمدى أن التوقف هو الأصح فقال: (٥)

ومنهم من توقف وهو مذهب الأشعرى رحمه الله ومن تابعه من أصحابه كالقاضى أبى بكر والغزالى وغيرهما وهو الأصح.

وذلك لأن وضعه مشتركًا أو حقيقة في البعض مجازًا في البعض إما أن يكون مُدركه عقليًا أو نقليًا: الأول محال إذ العقول لا مدخل لها في المنقول لا ضرورة ولا نظرًا والثاني إما أن يكون قطعيًا أو ظنيًا والقطعى غير متحقق فيما نحن فيه والظنى إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة مما يُقنع فيه بالظن وهو غير مسلم فلم يبق غير التوقف.

ثم قال: إن أبا الحسين البصرى ذكر في الرد على الوقف ما يناهز ثلاثين شبهة دائرة بين غث وسمين.

وقد سلك مسلك الغزالى في إيراد الشبه الشرعية واللغوية والعقلية ونقضها غير أنه أوسع دائرة البحث بما لا يخرج عن مسلك الغزالى فليراجعه من أراد التوسع (٦).

وأشهر من تصدى لمذهب الوقفيين ابن حزم فقد ذكر مذهبهم وأطال في الرد عليهم قال: (٧)

قال بعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها إما على وجوب في العمل أو في التحريم وإما على ندب


(١) آية ١٠ سورة الجمعة.
(٢) آية ١٠٣ سورة النساء.
(٣) آية ٣٤ سورة التوبة.
(٤) آية ١٨٣ سورة البقرة.
(٥) الإحكام للآمدى جـ ٢ ص ٢١٠.
(٦) المصدر السابق جـ ٢ ص ٢١٢ - ٢٢٤.
(٧) الاحكام لابن حزم جـ ٢ ص ٢.