فكان الناس لا يعلمون، فقال:«من هاهنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون من زكاة الفطر الواجبة عليهم شيئا».
وأخذ المستشرقون من هذا أن الشعب كان فى الواقع قليل الفهم والمعرفة للفقه، ولم يكن يعرف هذه الشئون إلا أهل المدينة وحدهم.
وهذه الأقصوصة الكاذبة والمكذوبة عرض لها ابن حزم وأفاض فى تكذيبها ما شاء الله أن يفيض فى قوة ومتانة. ومما أورده فى أدلة تكذيبها أنها مروية عن الحسن البصرى، والحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته على البصرة شيئا، لأنه لم يكن بالبصرة، وكان بالمدينة فلم يشهد له صلاة ولا خطبة ولم يحضر له مجلسا بالبصرة.
وقال أيضا: أن بناء البصرة كان سنة أربع عشرة من الهجرة، ووليها ولاة من المدينة ونزلها من الصحابة المدنيين أزيد من ثلاثمائة، ووليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين. أفلم يكن فى هؤلاء كلهم من بخيرهم بزكاة الفطر؟ بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به، أو جهلوه مدة تزيد على اثنين وعشرين عاما، مدة خلافة عمر بن الخطاب وعثمان حتى وليها ابن عباس بعد يوم الجمل. أترى عمر وعثمان قد ضيعا أعلام رعيتهما هذه الفريضة؟ أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان ولا دخلوا المدينة فغابت عنهم زكاة الفطر إلى ما بعد يوم الجمل؟ إن هذا لهو الضلال المبين والكذب المفترى، ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان الله عليهم.
ولكن ما ليهود المستشرقين وأشياعهم ولكل هذا؟ وما لهم وللبحث عن الحقائق التى تقف فى سبيل مطامعهم؟ إنهم لا همّ لهم إلا تلقف الأكاذيب التافهة، واتخاذها قواعد عامة يرمون بها المسلمين، ويمزقون بها الصلة بين عصور الفقه، ويتخذونها وسيلة إلى القول بأن ما كان من الفقه بعد ذلك إنما هو فقه مخترع وضعت له أحاديث تؤيده، ويسهل على الآخرين القول بأن الفقه الإسلامى مأخوذ عن الفقه الرومانى، تلك الأكذوبة التى تسممت بها عقول بعض من أبنائنا زمنا طويلا إلى أن كشف الله الغشاء عن بصائرهم وعرفوا ما بين الفقهين من تباين فى الأصول والفروع وما كان عليه الفقه الرومانى إذ ذاك من الاختفاء التام.
وأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اجتمع من إجماع الصحابة واجتهادهم وما كان من اجتهاد التابعين، كل ذلك قد نقل إلى من بعدهم وتدارسوه فى حلقات دروسهم، يطرحون فيها الكتاب والسنة، ويطرحون فيها الآثار … آثار الصحابة والتابعين، ويديرون المسائل فيما بينهم ويعقب الأستاذ برأيه، وكان لكل أستاذ تلاميذه وأصحابه، وكانت هناك مناظرات على نطاق أوسع مما كان فى عهد الصحابة والتابعين، وكانت حجج وردود ينتصر فيها كل لطريقته وما ذهب إليه، وقد جر ذلك إلى وجود الفقه الفرضى، فقه أرأيت كذا وكذا، وقد قام بجانب ذلك أبواب للتدريب الفقهى وتوسيع الأفق فيه.
كمسائل الحيل، والمسائل التى تشتبه فيها الأحكام وتدعو إلى الدقة التامة لمعرفة الفروق التى بينها، ومسائل المعاياة وما