للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أبايعك" ووضع يده في يده ثم تابعه في ذلك بقية الصحابة الحاضرين في السقيفة والتي جرت على ألسنة العلماء والمؤلفين في هذا الباب واعتبروها طريقا لإِنعقاد الإمامة للشخص ..

يقول العلامة ابن خلدون في الفصل التاسع والعشرين من مقدمته (١):

"اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شئ من ذلك .. ويطيعه فيما يكلف به من الأمر على المنشط والمكره (أي فيما يحبه من الأمر وينشط إليه وفيما يكرهه من ذلك وبتكليف فيه) وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدًا للعهد فاشتبه ذلك فعل البائع والمشترى فسمى بيعة مصدر باع ..

وصارت البيعة مصافحة بالأيدى - وهذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع .. وهو المراد في الحديث في بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة وعند الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ. ومنه بيعة الخلفاء ومنه إيمان البيعة - كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمى هذا الاستيعاب أيمان البيعة .. وكان الإِكراه فيها أكثر وأغلب ..

ولهذا لما أفتى مالك - رضى الله عنه - بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في إيمان البيعة ووقع ما وقع من محنة الإِمام - رضى الله عنه - …

وأمَّا البيعة المشهورة لهذا العهد فهى تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل .. أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازًا لما كان هذا الخضوع في التحية والتزام الآداب من لوازم الطاعة وتوابعها وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغنى بها عن مصافحة أيدى الناس التي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافسين للرياسة وصون المنصب الملوكى إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه ومشاهير أهل الدين من رعيته فافهم معنى البيعة في العرف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه ولا تكون أفعاله عبثا ومجانا .. واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك .. والله القوى العزيز ..

ويشير ابن خلدون بقوله: وهو المراد في الحديث في بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة العقبة وعند الشجرة - إلى بيعة العقبة وبيعة الشجرة .. أما بيعة العقبة فكانت ثلاثا .. الأولى وكانت مع نفر من الخزرج من أهل المدينة وفدوا إلى مكة في موسم الحج ولقيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يعرض نفسه على القبائل وعرض عليهم الإسلام فأسلموا ..

والثانية: كانت في العام التالى مع اثنى عشر رجلا من الخزرج والأوس قبل أن يشرع الحرب والقتال فبايعهم بيعة النساء الواردة في سورة الممتحنة ..

والثالثة: وكانت في العام الذي يليه مع سبعين من الخزرج والأوس بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم ولهم الجنة .. ثم هاجر إليهم فيما بعد ..

وقال المحب الطبرى: إن الظاهر أن العقبة التي تضاف إليها الجمرة بمنى والتي جعل رميها مع بقية الجمار من شعائر الحج وهى على يسار


(١) مقدمة العلامة ابن خلدون ص ١٨٦ وما بعدها.