للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم بين صدر الشريعة ما يستعمل فيه لفظ الأمر حقيقة فقال: إنه حقيقة في القول اتفاقًا مجاز عن الفعل عند الجمهور وعند البعض حقيقة فيه.

وأورد أدلة القائلين بالاشتراك بين القول والفعل وناقشها بما لا يختلف في جملته عما سبق إيراده عن كتب الحنفية.

ثم أيد مذهب الجمهور فقال: (١)

إننا إذا سلمنا -جدلًا- أنه حقيقة في الفعل فإن الدلائل تدل على أن القول للإيجاب لا الفعل وبين ذلك فقال:

إن الدلائل التي تدل على أن الأمر للإيجاب تدل على أن الأمر القولى للإيجاب لا الفعلى فإن تلك الدلائل في غير قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (٢) يراد بها الأمر القولى ولا يمكن حملها على الفعلى وأما في الآية الكريمة فالضمير في أمره إن كان راجعًا إلى الله تعالى لا يمكن حمله على الفعل وإن كان راجعًا إلى الرسول فالقول مراد إجماعًا فلا يحمل على الفعل لأن المشترك لا يراد به أكثر من معنى واحد. على أنا لا نحتاج إلى إقامة الدليل على أن الفعل غير مراد بل هو محتاج إلى إقامة الدليل على أن المراد الفعل. ونحن في صدد المنع. فصح ما قلنا إن الدلائل الدالة على أن الأمر للإيجاب لا تدل على أن الفعل للإيجاب.

وقال الغزى تعليقا على قول صدر الشريعة "سلمنا".

لما كان الأصل وهو كون الأمر حقيقة في الفعل بحثا لغويا ربما يمكن إثباته بالنقل عن أئمة اللغة أو الشيوع في الاستعمال سلمه واشتغل بما هو من مباحث الأصول وهو كون الفعل موجبا أو غير موجب فأبطل التشريع أولا والفرع ثانيا والدليل ثالثا.

أما الأول: فلأن الدلائل المذكورة على كون الأمر للإيجاب إنما تدل على أن الأمر بمعنى القول المخصوص للإيجاب ولا تدل على أن الأمر بمعنى فعل النبي عليه الصلاة والسلام للإيجاب. واستدل صدر الشريعة على أن الفعل غير مراد بأن القول مراد إجماعا فلا يراد الفعل لأن المشترك لا عموم له. وما كان من مذهب الخصم عموم المشترك أو أعرض عن الاستدلال إلى المنع لأن الخصم هو الذي يستدل على كون الأمر للإيجاب قولا كان أو فعل فيكفينا أن نقول: لا نسلم أن الأمر بمعنى الفعل مراد من الأدلة الدالة على كون الأمر للوجوب. أما في غير قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فظاهر وأما في هذه الآية فلتوقفه على عموم المشترك. وهو ممنوع.

وأما الثاني: وهو إبطال كون الفعل موجبًا فلأن تعدد الدال مع اتحاد المدلول خلاف الأصل لحصول المقصود بواحد اتفاقا وهاهنا اللفظ موضوع للإيجاب اتفاقا فالقول بكون الفعل أيضا للإيجاب مصير إلى ما هو خلاف الأصل فلا يرتكب إلا بدليل كما في تعدد المدلول مع اتحاد الدال أعنى الاشتراك. وإطلاق الترادف على توافق القول والفعل في الدلالة على الإيجاب خلاف الاصطلاح لأنه إنما يطلق على توافق اللفظين. ولكن المقصود واضح.


(١) المصدر السابق جـ ٢ ص ٤٩.
(٢) آية ٦٣ سورة النور.