للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإذا أريد به الندب فقد أريد بعض ما يشتمل عليه الوجوب فكان حقيقة فيه كما لو أريد من العام بعضه يكون حقيقة فيه وكما لو أطلق لفظ الإنسان على الأعمى والأشل ومقطوع الرجل يكون حقيقة وإن مات بعضه.

وأيضًا فإن من شرط المجاز أن يكون المعنى المجازى مغايرًا للمعنى الحقيقى وهذا هو عين المعنى الحقيقى لأنه جزؤه إلا أنه قاصر فكيف يكون اللفظ فيه مجازًا.

ومن أدلتهم النقلية على ذلك أن النبي عليه السلام قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" لأن النبي عليه السلام رد الأمر إلى مشيئتنا وهو معنى الندب (١).

ويرد على الدليل النقلى ابن أمير الحاج (٢) بأن قوله "رده إلى مشيئتنا" مع روايتهم الحديث بلفظ "ما استطعتم" ذهول عظيم.

ويضيف الآمدى (٣) في رده: لا يلزم من قوله "ما استطعتم" تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال ما استطعتم وليس خاصية للندب فإن كل واجب كذلك.

ويرد على حجتهم العقلية بأن المندوب لا يمكن أن يدخل في الواجب فإن الواجب هو المطلوب على سبيل الإلزام وهذا القيد يخرج المندوب لا محالة.

وأيضًا لو كان تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازمًا لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل أولى لكونه متيقنًا بخلاف المندوب فإنه متميز بِكَوْن الفعل مترجحا على الترك وهو غير متيقن (٤).

ولا يخرج كلام ابن الملك في تصوير كون الأمر حقيقة في الندب عما نقله البخارى عنهم (٥).

حيث يقول: إن الندب جزء من الواجب لأن الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والمندوب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه فكان حقيقة فيهما كما لو أريد من العام بعضه.

وفى المسودة لآل تيمية (٦) عند ذكر القول بأنه حقيقة في الندب قالوا "وهو اختيار أكثر أصحابنا، القاضي أبى يعلى وابن عقيل وهو نص الشافعي حكاه أبو الطيب الطبرى وهو الصحيح من مذهبه".

ثم نقلوا عن أحمد بن حنبل (٧) أن ما أمر به النبي عليه السلام عنده أسهل مما نهى عنه وقالوا: ظاهر هذا يمنع من الوجوب ويفيد أنه على الندب.

وفى موضع آخر قالوا: (٨) يحتمل أنه أراد على الندب وهو بعيد لمخالفته منصوصاته الكثيرة. وزعم أبو الخطاب أن هذا يدل على أن إطلاق الأمر مقتضى الندب.

ويقول المحلى تعليقًا على قول ابن السبكى: "وقيل هي حقيقة في الندب": (٩)


(١) التقرير والتحبير جـ ١ ص ٣٠٦.
(٢) المصدر السابق.
(٣) الإحكام جـ ٢ ص ٢٢٤.
(٤) المصدر السابق ص ١٢٢.
(٥) شرح المنار ص ١٢٢.
(٦) المسودة لآل تيمية ص ٦.
(٧) المصدر السابق ص ٩٤.
(٨) المصدر السابق ص ٥.
(٩) جمع الجوامع جـ ١ ص ٤٣٩.