للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأما إذا لم يحتج إلى شئ وعمل كثير بنى على صلاته، لحديث أبى برزة الأسلمى - رضي الله عنه - أنه كان يصلى في بعض المغازى فانسل قياد الفرس من يده فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع القهقرى وأتم صلاته. (١) وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى عمل كثير (٢).

هذا، وإن مراعاة الترتيب بين الفوائت وبين فرض الوقت واجب إلا في حالة النسيان أو ضيق الوقت أو كثرة الفوائت، ولو أن رجلًا نسى الظهر فصلى من العصر ركعة في أول وقتها ثم ذكر فإنه يقطع العصر ثم يصلى الظهر ثم يصلى العصر؛ لأنه لو كان ذاكرًا للظهر عند الشروع لم يصح شروعه في العصر في أول وقتها، فإذا ذكرها قبل الفراغ من العصر لا يمكنه إتمام العصر أيضًا. فإن مضى في العصر لم يَجْزْهِ لانعدام شرط الجواز؛ فإن مراعاة الترتيب بعد التذكر شرط لجواز العصر.

وإن كان قد افتتح العصر لأول وقتها وهو ذاكر للظهر فصلى منها ركعة ثم احمرت الشمس فإنه يقطع الصلاة؛ لأنه لم يصح شروعه في العصر في أول وقتها مع ذكره للظهر، والبناء على الفاسد غير ممكن. فعليه أن يقطع صلاته ثم يستقبل العصر، وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف، رحمهما الله، وعلى قول محمد - رحمه الله - هو غير شارع في الصلاة أصلًا، فعليه أن يستقبل العصر. وإن افتتح العصر والشمس حمراء وهو ذاكر للظهر فإنه يجزئه؛ لأن هذه ساعة لا يجوز فيها أداء الظهر ولا غيره من الصلاة سوى عصر اليوم، فعليه أن يشتغل بما يكون الوقت قابلًا له.

فإن غربت الشمس وهو في العصر فإنه يتمها. وطعن عيسى في هذا وقال: الصحيح أنه يقطعها بعد غروب الشمس ثم يبدأ بالظهر ثم العصر؛ لأن ما بعد غروب الشمس الوقت قابل للظهر، والمعنى المسقط لمرعاة الترتيب ضيق الوقت، وقد انعدم لغروب الشمس؛ لأن الوقت قد اتسع، فهو بمنزلة ما لو افتتح العصر في أول الوقت وهو ناس للظهر ثم تذكر.

ومنا ذكره عيسى - رحمه الله تعالى - هو القياس، ولكن محمدًا - رحمه الله تعالى - استحسن فقال: لو قطع صلاته بعد غروب الشمس كان مؤديًا جميع العصر في غير وقتها، ولو أتمها كان مؤديًّا بعض العصر في وقتها.

فإن كان افتتح العصر بعد ما غربت الشمس وهو ذاكر للظهر فإنه يقطعها ويصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب؛ لأن الوقت واسع، وقد صارت العصر فائتة كالظهر، فعليه مراعاة الترتيب بينهما وبين فرض الوقت.

وإن كان ناسيًا للظهر حين افتتح العصر بعد غروب الشمس فلما صلى منها ركعة ذكر أن الظهر عليه فإنه يفسد عصره ويصلى الظهر؛ لأن التذكر في هذا الوقت يمنعه من افتتاح العصر فيمنعه من إتمامها أيضًا (٣).


(١) صحيح البخارى في موضعين: الأول في كتاب الجمعة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة. والثانى في كتاب الأدب. باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "يسروا ولا تعسروا". وكان يحب التخفيف واليسر على الناس.
(٢) المبسوط: ١/ ٢٣٢ بتصرف.
(٣) المبسوط: ٢/ ٨٧ - ٨٨.