ثم قال: وهذا شرط لازم فى زماننا، فان العادة اليوم أن من صار بيده فتوى المفتى استطال على خصمه وقهره بمجرد قوله أفتانى المفتى بأن الحق معى والخصم جاهل لا يدرى ما فى الفتوى فلا بد أن يكون المفتى متيقظا يعلم حيل الناس ودسائسهم، فاذا جاء السائل يقرره من لسانه ولا يقول له: ان كان كذا فالحق معك، وان كان كذا فالحق مع خصمك، لانه يختار لنفسه ما ينفعه ولا يعجز عن اثباته بشاهدى زور، بل الاحسن أن يجمع بينه وبين خصمه فاذا ظهر له الحق مع أحدهما كتب الفتوى لصاحب الحق، وليحترز من الوكلاء فى الخصومات، فان أحدهم لا يرضى الا باثبات دعواه لموكله بأى وجه أمكن، ولهم مهارة فى الحيل والتزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل بصورة الحق، فاذا أخذ الفتوى قهر خصمه ووصل الى غرضه الفاسد، فلا يحل للمفتى أن يعينه على ضلاله، وقد قالوا من جهل بأهل زمانه فهو جاهل، وقد يسأل عن أمر شرعى وتدل القرائن للمفتى المتيقظ أن مراده التوصل به الى غرض فاسد كما شاهدناه كثيرا.
والحاصل أن غفلة المفتى يلزم منها ضرر عظيم فى هذا الزمان.
وقال فى الدر:(١): ولا يشترط حريته أى فهو كالراوى لا كالشاهد والقاضى
ولذا تصح فتواه لمن لا تقبل شهادته له، ولا تشترط ذكورته ونطقه، فيصح افتاء الاخرس لا قضاؤه، فيكتفى بالاشارة منه، وذلك حيث فهمت اشارته، والاصح أنه يصح فتوى الاطرش وهو من يسمع الصوت القوى.
قال ابن عابدين: لا شك أنه اذا كتب له وأجاب عنه جاز العمل بفتواه وأما اذا كان منصوبا للفتوى يأتيه عامة الناس ويسألونه من نساء وأعراب وغيرهم فلا بد أن يكون صحيح السمع، لانه لا يمكن كل سائل أن يكتب له سؤاله، وقد يحضر اليه الخصمان ويتكلم أحدهما بما يكون فيه الحق عليه لا له والمفتى لم يسمع ذلك منه، فيفتيه على ما سمع من بعض كلامه فيضيع حق خصمه، وهذا قد شاهدته كثيرا، فلا ينبغى التردد فى أنه لا يصلح أن يكون مفتيا عاما ينتظر القاضى جوابه، ليحكم به، فان ضرر مثل هذا أعظم من نفعه.
ويصح أن يفتى القاضى - ولو فى مجلس القضاء - من لم يخاصم اليه.
قال فى الظهيرية: ولا بأس للقاضى أن يفتى من لم يخاصم اليه، ولا يفتى أحد الخصمين فيما خوصم اليه.
وفى الخلاصة: القاضى هل يفتى؟ فيه أقاويل، والصحيح أنه لا بأس به فى مجلس القضاء وغيره فى الديانات والمعاملات.