للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السر والعلانية فى مدخله ومخرجه وأحواله.

واذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذى لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الارض والسموات.

فحقيق بمن أقيم فى هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذى أقيم فيه، ولا يكون فى صدره حرج من قول الحق والصدع به، فان الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذى تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى:

«وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ‍ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً} (١) وكفى بما تولاه الله بنفسه تعالى شرفا وجلالة اذ يقول فى كتابه «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ‍ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»}. (٢)

وليعلم المفتى عمن ينوب فى فتواه، وليوقن أنه مسئول غدا وموقوف بين يدى الله تعالى.

وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وامام المستفتين وخلتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتى عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ،} (٣) فكانت فتاويه صلّى الله عليه وسلّم جوامع الاحكام ومشتملة على فصل الخطاب، وهى فى وجوب أتباعها وتحكيمها والتحاكم اليها ثانية الكتاب.

وليس لاحد من المسلمين العدول عنها ما وجد اليها سبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد اليها حيث يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»}. (٤)

ثم قام بالفتوى بعده أصحابه صلى الله عليه وسلم ألين الامة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأحسنها بيانا، وأصدقها ايمانا، وأعمها نصيحة، وأقربها الى الله وسيلة، وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط‍،


(١) الآية رقم ١٢٧ من سورة النساء.
(٢) الآية رقم ١٧٦ من سورة النساء.
(٣) الآية رقم ٨٦ من سورة ص.
(٤) الآية رقم ٥٩ من سورة النساء.