أثرهم المناطق الخاصة، فالمسلم فى كل عصر لا ينزع إلى مذهب ديني إلا عن عقيدة منشؤها أما النظر والبحث إن كان من أهلها، وأما الثقة بمن يحبهم ويجلهم وتربى فى حجورهم، وأما الدعاية البارعة المحببة ممن لهم مكانة فى نفوس العامة، أما سيف المعز وذهبه فقل أن يفلحا فى مثل هذا الأمر.
فالدين الإسلامى نفسه لم ينتشر إلا بقوته ومنعته ومزاياه، وأى مذهب فقهى فسبيل انتشاره هو سبيل انتشار هذا الدين. وغفر الله لأصحاب نظريه السلطان. لقد ذهبوا إليها فى حسن نية، ولو تيقظوا إلى ما انفتح علينا من بعدهم لتدبروا أمرهم ولأعرضوا عنها بحق وعن بينة.
ويقيننا أنهم ما كانوا يعنون منها أكثر من أن السلطان مكن أتباع هذه المذاهب من الدعوة إليها، وإظهار ما فيها من القوة فحببوا فيها العامة بهذا وحده، كما كان يفعل زفر ابن الهذيل حينما كان قاضيا بالبصرة، فكان يدرس ويبدى الرأى الدقيق الذى ترضاه النفوس حتى إذا رأى الإعجاب من سامعيه قال لهم أن هذا هو مذهب أبى حنيفة.
وما زال يجرى على هذه الطريقة حتى حبب إليهم أبا حنيفة ومذهبه بعد أن كانت شقة الخلف واسعة بين الكوفة والبصرة بسبب الصراع فى مسائل العقائد. ولو أن أصحاب فكرة السلطان أرادوا غير هذا لكانوا على خطأ بين من شأنه أن يفتح علينا أبوابا من المطاعن المختلفة والمتربصون لهذا كثيرون. فالمذاهب الفقهية إنما عاشت بقوتها ِومنعتها، وبأتباعها وحسن أسلوبهم فى الدعاية والتحبب وإظهار المحاسن.
أما أسلوب الطعن والتشهير بالمذاهب فأسلوب ممقوت إن ارتضاه واحد لعنه مئات، وإن راج فى لحظة انحط قدره سنوات وسنوات، وهكذا كان حكم الرأى العام على أسلوب إمام الحرمين والرازى والخطيب البغدادى ومن نهج منهجهم فى الطعن على أبى حنيفة، وكذلك كان حكمه على من طعنوا على إمام دار الهجرة وعلى من طعنوا على غيره، وكان حكمه المبرم أنهم جميعا أئمة هدى ومن سلك طريق أى واحد منهم لقى الله سالما.
ومن المذاهب الفقهية ما قصر أجله، ومنها ما طال عمره وقوى نفوذه. ومذاهب الصحابة والتابعين ليست مما نعنيه بهذا القول، فهى الموارد الفعالة والعناصر القوية التى تكونت منها مذاهب فقهاء الأمصار واندمجت فيها اندماجا لم يميزها على حده فى الكتب الفقهية المذهبية.
ومع هذا بقيت متميزة محفوظة فى كتب الآثار، وفى كتب اختلاف الفقهاء، وفى كتب التفسير الأولى وشروح الحديث الموسعة، ونقلت إلينا نقلا صحيحا، وهى الذخيرة الأولى الباقية، وهى الضياء الهادى فى كل عصر، فلا يصغ إلى ما قاله إمام الحرمين وابن الصلاح فى شأن اتباعها والأخذ بها، فليس ذلك إلا عصبية مذهبية عرفت عن نفر قليل من الشافعية.
ومن المذاهب الفقهية من لم يعرف أنه كان له من الأتباع من التزموا الأخذ بها فهى كما نشأت حتى اليوم ولا نعرف من أحكامها الا